دلالة آيتين على حرمة النَّظر بريبة (دراسة استدلالية)

دلالة آيتين على حرمة النَّظر بريبة  (دراسة استدلالية)

الملخص

تعرَّض الكاتب -مستفيدا من درس الشيخ الأعرافي- إلى دلالة آيتي {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى} و{وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ} على حرمة النَّظر بريبة، حيث ذكر في المبحث الأول معنى الريبة وأتى بثلاثة اصطلاحات ذكرها الفقهاء يبتني عليها الاستدلال، ثمَّ في المبحث الثاني تعرَّض إلى دلالة الآية الأولى، ذاكرا ثلاثة معان لمعنى{لا تقربوا}، وفي المبحث الثالث تعرَّض إلى الآية الثانية في نقطتين، وذكر خمسة معانٍ لمعنى الفاحشة الوارد في الآية، وأنها أقرب في الاستدلال من الآية الثانية، وإن خلص إلى عدم دلالة الآيتين إلا على بعض الاحتمالات([1]). 

 

بسمِ اللهِ الرَّحمن الرَّحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، اللهمَّ صلِّ على محمَّد وآل محمَّد وعجل فرجهم..

سيكون الكلام في ثلاثة مباحث:

المبحث الأوَّل: معنى الريبة، والمبحث الثَّاني: حول آية {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى} ومدى دلالتها على حرمة النَّظر بريبة. والمبحث الثَّالث: حول آية {وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ} ومدى دلالتها على حرمة النَّظر بريبة.

المبحث الأوَّل: معنى الريبة

المعنى اللغوي للريبة:

إنَّ مجموع المعاني التي ذكرت في عدَّة من المعاجم اللغوية لمفردة الريبة هو([2]):

-التهمة. -الظَّن. -الشَّك. -الخوف. -الظنّة.

وقد ذُكر في معجم الفروق اللغوية فرقاً بين الرِّيبة والتهمة وفرقاً بين الرَّيب والشَّك لا يهمَّ التعرُّض لهما في المقام([3]). 

المعنى الاصطلاحي للريبة:

قبل التطرّق للمعنى الاصطلاحي للريبة ينبغي الإشارة إلى أنَّ هذه اللفظة لم تأتِ في الأدلة والروايات التي جاءت في باب النكاح والنَّظر والتي استدلَّ بها لحرمة النَّظر بريبة، فهو اصطلاح جاء على ألسنة الفقهاء فحسب.

فائدة:

 تجدر الإشارة إلى أنَّ اصطلاحات الفقهاء على قسمين:

القسم الأوَّل: اصطلاحات مأخوذة من نفس الأدلة والآيات والروايات.

القسم الثَّاني: اصطلاحات مصطادة وانتزاعية بحيث لم تأتِ عينها في كلمات المعصومينi، والريبة من هذا القسم.

ثمَّ إنَّه في موارد القسم الثَّاني لا يكون للكلمة التي جاءت في اصطلاح الفقهاء موضوعية، فقد نصل- بعد تحليل الروايات- إلى استبدال هذه الكلمة والاصطلاح إلى اصطلاح أنسب أو نتصرف في تفسير الاصطلاح بالزيادة أو النقصان، وعليه ففي الاصطلاحات من القسم الثَّاني نكون في سعة من أمرنا في التصرّف في الاصطلاح؛ إذ لا تكون هناك أهمية للكلمة والاصطلاح المذكور في كلمات الفقهاء بل المهم الأدلة التي ذُكرت، بخلاف القسم الأوَّل فإنه باعتبار أنَّ الاصطلاح جاء في الروايات يلزم علينا أن نتقيّد به، وعليه فلا يلزم التدقيق كثيراً في المعنى اللغوي أو العرفي فيما كان من القسم الثَّاني خلافاً لما كان من القسم الأوَّل.

ثمَّ إنَّ ما كان من قبيل القسم الثَّاني يمكن تقسيمه تقسيماً ثانوياً لا يخلو من أهمية، وحاصله أن الاصطلاحات التي جاءت في ألسنة الفقهاء ولم ترد في الروايات على قسمين:

الأول: ما جاء في كلمات المتقدمين من الفقهاء.

الثَّاني: ما جاء في كلمات المتأخرين منهم.

أما ما جاء في كلمات المتقدِّمين من الفقهاء فينبغي التدقيق فيه؛ إذ أنَّه وإن لم يرد في الروايات ولكن يُحتمل أنَّه أُخذ من روايات لم تصلنا أو كان هذا الاصطلاح مستلّاً ومستخرجاً من الروايات من قِبلهم، واستخراجهم للاصطلاح أقرب للصواب؛ لذا يلزم الاعتناء بهذه الاصطلاحات أكثر من الاصطلاحات التي جاءت في ألسنة الفقهاء المتأخرين، نعم لا تصل أهميَّة الاصطلاح -حتى الذي جاء في كلمات الفقهاء المتقدِّمين- إلى أهميَّة الاصطلاح الذي وردت في الروايات.

أمَّا المعاني الاصطلاحية للريبة فهي ثلاثة:

المعنى الأوَّل: خطور تصوُّرات وتخيُّلات المعصية بسبب النَّظر. المعنى الثَّاني: الميل إلى المعصية بسبب النَّظر. المعنى الثالث: خوف الوقوع في الحرام بسبب النَّظر.

وتفصيل ذلك:

المعنى الأوَّل: خطور تصوُّرات وتخيُّلات المعصية بسبب النَّظر.

النَّظر بريبة هو النَّظر الذي يوجب وجود خواطر وتصورات وتخيُّلات المعصية والمشاهد الجنسية كتقبيل المنظور إليه والذي لا يجوز في حدِّ نفسه، أو ما هو أشدُّ من التقبيل، وقد ذكر هذا المعنى الفاضل الهندي في كشف اللثام، فقال -بعد نقله رأي الشيخين في مسألة النَّظر إلى نساء أهل الذمَّة وشعورهنّ-:

".. وهي[أي الريبة] ما يخطر بالبال من النَّظر دون التلذّذ به، أو خوف افتتان.."([4]).

فهو رحمه الله تعالى-كما يظهر من عبارته هذه- يرى أنَّ عندنا ثلاثة أمور:  التلذُّذ والريبة وخوف الافتتان، وعليه فإنَّ الريبة -التي هي بحسب رأي الفاضل الهندي ما يخطر بالبال- غير خوف الافتتان الذي هو المعنى الثَّالث الآتي([5])-، نعم ذكر N تعالى في تتمَّة عبارتِه السَّابقة أنَّه "يمكن تعميم الريبة للافتتان؛ لأنَّها من (راب) إذا أوقع في الاضطراب.."، وبناء عليه تكون الريبة شاملة للمعنى الأوَّل والثَّالث الذي يأتي.

وينبغي الإشارة إلى أنَّ الشيخ الأنصاري قد فسَّر مراد الفاضل الهندي من الخطور بأنَّه الميل أي المعنى الثَّاني الذي يأتي، وبناء على هذا التفسير من الشيخ الأنصاري يتَّحد المعنى الأوَّل مع الثَّاني، قال الشيخ الأنصاري:

"ولا يبعد أن يكون المرادُ بها[أي الريبة] -كما عن كشف اللثام-: ما يخطر بالبال عند النَّظر، ولعلَّ‌ المراد به: الميل إلى فعل الحرام مع المنظور إليه، من الزنى والتقبيل ونحوهما"([6]).

ولعلَّ ما دعا الشيخ الأنصاري لتفسير عبارة كاشف اللثام بالمعنى الثَّاني أي الميل هو استبعاد حرمة النَّظر الذي لا يوجب إلا حصول الخواطر.

إذن، فخلاصة ما تقدَّم حول عبارة الفاضل الهندي:

  1. معنى الريبة بحسب صدر عبارته هو ما يخطر في البال من النَّظر.
  2. معنى الريبة بحسب ذيل عبارته معنى يشمل المعنيين الأوَّل والثالث، ولكن ذكر ذلك على نحو الاحتمال بقوله "يمكن تعميم..".
  3. بحسب تفسير الشيخ الانصاري لعبارة الفاضل الهندي يتحد المعنى الأوَّل مع الثَّاني، فما يخطر بالبال من النَّظر هو نفسه بمعنى حصول الميل.

وممَّن يستفاد منه هذا المعنى الأوَّل للريبة الشيخ الأراكي N تعالى حيث قال: ".. تصوُّر العمل القبيح الذي هو المعبَّر عنه في كلماتِهم بالريبة على ما هو الظاهر من كلماتهم.."([7]).

المعنى الثَّاني: الميل إلى المعصية بسبب النَّظر

النَّظر بريبة هو النَّظر الذي يوجد في النفس ما هو أزيد من مجرَّد التصوُّرات، فهو يوجد في النفس الميل للمحرَّم، بمعنى أنَّ النَّظر بريبة هو النَّظر الذي يوجد في نفس الناظر الميل لفعل الحرام سواء أكان مع المنظور إليه أم مع غيره، بينما المعنى السابق كان أضيق من ذلك؛ إذ النَّظر بريبة -بحسب المعنى السابق-هو النَّظر الذي يوجب ظهور التصورات والتخيلات المتعلقة بالمعصية وإن لم يوجب حصول الميل في نفس الناظر. 

وقد ذكر هذا المعنى الشيخ الأنصاري N وبه فسّر مراد الفاضل الهندي كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في المعنى الأوَّل، نعم خصّه الشيخ الأنصاري بالميل لفعل الحرام مع المنظور إليه خاصَّة لا مطلقاً كما هو ظاهر عبارته المتقدِّمة.

المعنى الثَّالث: خوف الوقوع في الحرام بسبب النَّظر

النَّظر الذي يوجد في النفس ما هو أزيد من مجرد تصورات المعصية أو الميل إليها، فالنَّظر بريبة- بحسب هذا المعنى- ليس هو ما يوجب وجود التصورات أو الميل فقط، بل يوجب خوف الوقوع في الحرام؛ فإنَّه قد توجد في نفس الشخص ميول للمعصية ولكنَّه متسلِّط على نفسه، ويطمئن بأنَّه يكبح ميوله، ولا ينجرُّ للمعصية فلا تتحقَّق حينئذٍ الريبة بهذا المعنى الثَّالث، ولكن في بعض الأحيان يتجاوز الفرد التصورات والميول فيوجد عنده احتمال عقلائي أو اطمئنان بأنَّه يُقدم على الحرام بسبب هذا النَّظر، وعند ذلك يتحقَّق المعنى الثَّالث للريبة، ومن الواضح أنَّ الحرمة تتحقَّق عند الخوف في الوقوع، فتحققها في حالة الاطمئنان بالوقوع في الحرام من باب أولى، فالمراد بحسب هذا المعنى الخوف العملي الذي يرجع إلى الجوارح -بمعنى أنَّ تحقُّق مقتضى الخوف لا يقتصر على الجوانح-، بخلاف التصورات والميول التي ترجع إلى أمر جوانحي، وهذا المعنى هو الذي يذكر غالباً للريبة؛ إذ ذكر هذا المعنى صاحب العروة ولم يعلِّق كثيرٌ من الفقهاء على كلامه ممَّا يفهم ارتضاؤهم لهذا المعنى([8]).

وينبغي الإشارة إلى أنَّ الريبة بهذا المعنى الثَّالث لا تتحقَّق في حالة وجود احتمال ضعيف وهمي غير عقلائي بالوقوع في الحرام، بل المراد هو الاحتمال العقلائي.

هذه هي معاني النَّظر بريبة في كلمات الفقهاء.

تنبيه:

إنَّ الحرمة التي يبحث عنها لا تختص بالنَّظر وإن كان الغالب هو طرح هذا المبحث في ضمن أحكام ومباحث النَّظر؛ ولذا اقتصر في عنوان البحث على ذكر النَّظر، فيشمل البحث كلَّ لمس او ارتباط فيه ريبة، والشاهد على ذلك أنَّ بعضَ الأدلة التي استدلَّ بها على حرمة النَّظر بريبة هي في الأساس واردة في مورد غير النَّظر.([9])

المبحث الثَّاني: حول آية {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى} ومدى دلالتها على حرمة النَّظر بريبة

قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى‏ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وساءَ سَبيلاً}(الإسراء:32).

وهذه الآية ممَّا يمكن أن يذكر كدليل على حرمة النَّظر بريبة، وهو دليل لم يذكر في كلمات العلماء ظاهراً.

ابتداءً قد يقال بأنَّ هذه الآية لا ربط لها بمسألة النَّظر بريبة، بل هي تتحدَّث عن الزِّنا، ولكن يمكن أن تكون هذه الآية من الأدلة الدالة على حرمة النَّظر بريبة بتقريب حاصله: أنَّ الآية المباركة لم تقل (لا تزنوا) حتى يكون نظرها مقتصراً على نفس الزِّنا، بل الآية قالت {لا تقربوا} حيث جيء فيها بكلمة (القرب)، وبهذا المفاد تكون أوسع ممَّا لو قيل (لا تزنوا)، وعليه فإنَّ الآية المباركة تنهى عن فعل أيِّ شيءٍ يُحتمل أنَّه يقرّب للزنا، فالآية فيها دائرة احتياطية في النهي عن الزِّنا بحيث تشمل حتى النَّظر بريبة الذي من الممكن أن يؤدِّي إلى الزِّنا.

وبعبارة أخرى: إنَّ الشارع لشدة اهتمامه بترك الزِّنا وسّع دائرة الحرمة فبدل أن ينهى عن الزِّنا وحسب نهى عن كلِّ المقدِّمات التي يمكن أن تقرّب إلى الزِّنا، وهي الأمور التي تعدّ مظانّ للوقوع في الزِّنا، ويحتمل احتمالاً عقلائياً أن يقع المكلَّف في الزِّنا بفعله لتلك المقدِّمات، ومن تلك المقدِّمات التي يحتمل مع ارتكابها أن يقع المكلف في الزِّنا النَّظر بريبة؛ إذ إنَّ النَّظر بريبة هو خوف الوقوع في الحرام -بناء على الرأي المعروف له-، والزِّنا أحد أفراد الحرام.

النتيجة أنَّ تعبير الآية بـ {لا تقربوا} آكد من التعبير بـ (لا تزنوا)، وبالتالي تدلُّ الآية على حرمة النَّظر بريبة باعتباره مقدِّمة يحتمل معها الوقوع في الزِّنا. هكذا قد يقال.

ولتحقيق المسألة نقول:

 التعبير بـ {لا تقربوا} له ثلاثة معانٍ محتملة:

المعنى الأوَّل: الارتكاب

وهو المعنى الذي فسّر به الآيةَ كثيرون([11]) وهو أنَّ معناه بحسب الظهور العرفي: (لا ترتكبوا)، فالقرب هنا بمعنى الارتكاب والميل إلى الشيء، نعم الآية بهذا التعبير فيها تأكيد أكثر من التعبير بـ (لا تزنوا) ولكنَّها في النهاية لا تدلُّ على أكثر من النهي عن ارتكاب نفس الزِّنا؛ أي أنَّها لا تدلُّ على النهي عن مقدِّمات الزِّنا، وهذا التعبير موجود كذلك في قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتيمِ..}(الأنعام:152) والتي تعني لا تتصرفوا في مال اليتيم، وكذلك في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأَنْتُمْ سُكارى‏...}(النّساء:43)، والتي تعني النهي عن الصلاة في حالة السكر. 

وبهذا المعنى الأوَّل يسقط الاستدلال بالآية المباركة لإثبات حرمة النَّظر بريبة؛ إذ الآية لا تدلُّ على أكثر من حرمة نفس الزِّنا ولا دلالة فيها على حرمة مقدِّماته حتى تشمل النَّظر بريبة، نعم مثل هذا التعبير فيه دلالة على تأكيد الحرمة لنفس الزِّنا.

وينبغي الإشارة إلى أن التعبير بـ{لا تقربوا} واستعماله بمعنى (لا ترتكبوا)- أي هذا المعنى الأوَّل- استعمال مجازي كنائي ولكنه عرفي.

المعنى الثَّاني: الاقتراب

القرب المذكور في الآية ليس بمعنى الارتكاب بل بمعنى الاقتراب من الشيء، وهذا هو المعنى اللغوي للقرب بخلاف المعنى السابق الذي استعمل فيه القرب بمعنى الارتكاب الذي هو معنى كنائي ومجازي، بينما هذا المعنى الثَّاني مبني على أن هذا هو المعنى الحقيقي للقرب.

وهنا قد يطرح إشكال حاصله: إذا حملنا الآية على المعنى الحقيقي للقرب سيكون المراد هو النهي عن الاقتراب من الزِّنا أي النهي عن مقدِّمات الزِّنا لا نفس الزِّنا، فلا يكون في الآية أيّ دلالة على النهي عن الزِّنا ولا تتكلم أصلاً عن الزِّنا، وهذا عجيب وبعيد!! 

والجواب أنَّ هذا ليس بعيداً؛ إذ الآية بمعناها المطابقي تنهى عن مقدِّمات الزِّنا، ويستفاد منها بالفحوى([14]) أنَّ نفس الزِّنا حرام. وبالتالي فليس في حمل الآية على النهي عن المقدِّمات ارتكاب لما هو خلاف الظاهر، وعليه فالتمسك بهذا المعنى لا يلزم منه عدم دلالة الآية على حرمة نفس الزِّنا.

المعنى الثالث: الجمع بين المعنيين

أن يكون كلا المعنيين السابقيين مراداً في قوله {لا تقربوا}، فهذا المعنى جمع بين المعنيين السابقين؛ فإنَّ القرب يستعمل لنيل الشيء كما أنَّه يستعمل لمقدِّمات الشيء، إمَّا على نحو المشترك اللفظي([15]) أو المعنوي([16]).

ولا يرد الإشكال السَّابق -وهو لزوم عدم دلالة الآية على النَّهي عن نفس الزِّنا- على هذا المعنى الثَّالث من الأساس؛ إذ الآية -بناء على هذا المعنى- تنهى في وقت واحد عن الزِّنا وعن مقدِّماته، فلا يقال بأنَّه يلزم من هذا المعنى عدم دلالة الآية على النهي عن نفس الزِّنا، بل هي دالة على النهي عن نفس الزِّنا كما أنَّها دالة على النهي عن مقدِّماته، ولا حاجة للاستعانة بالفحوى -كما كان في المعنى السابق- لإثبات دلالة الآية على النهي عن نفس الزِّنا.

ثمَّ إنَّه بناء على المعنى الثَّاني والثالث تكون الآية مرتبطة ببحثنا ودالة على  حرمة النَّظر بريبة، بينما بناء على المعنى الأوَّل لا تكون الآية دالة على أكثر من حرمة نفس الزِّنا فلا دلالة فيها على النهي عن مقدِّماته التي منها النَّظر بريبة فتكون الآية أجنبية عن محلِّ البحث.

والصحيح من المعاني الثلاثة هو المعنى الأوَّل، وأنَّ النهي في الآية إنَّما هو نهي عن نفس الزِّنا فحسب، وهذا هو المشهور بين المفسرين، وله نظائر في القرآن تقدَّمت الإشارة إليها، مثل {ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} والتي يستبعد فيها أن يكون النهي عن مقدِّمات الصلاة في حالة السكر، وكذلك الآية الأخرى {ولا تقربوا مال اليتيم} والتي يستبعد أيضاً أنَّها تنهى عن المقدِّمات، فاستعمال هذا التعبير للنهي عن المقدِّمات بعيد ولا يناسب استعمالات القرآن الكريم.

وعلى كلِّ حال فالاحتمال والمعنى الأوَّل هو الأقرب، ولو تردَّدنا في المراد من {لا تقربوا} في الآية المباركة اقتصرنا على القدر المتيقن وهو المعنى الأوَّل أيضاً الذي يكون المراد فيه النهي عن ارتكاب نفس الزِّنا، نعم هذا لا يعني وجود نكتة التأكّد في مثل هذا التعبير؛ إذ تارة يأتي التعبير بـ (لا تزنوا) وتارة يأتي التعبير -كما هو في الآية- بـ {لا تقربوا الزِّنا}، والتعبير الثَّاني فيه نهي أكيد بخلاف التعبير الأوَّل.

النتيجة أنَّه لا دلالة في هذه الآية على حرمة النَّظر بريبة.

تنبيهان:

التنبيه الأوَّل: 

لو سلَّمنا دلالة الآية المباركة على حرمة النَّظر بريبة بتقريب دلالتها على حرمة مقدِّمات الزِّنا تكون دلالتها أخص من المدعى، بتقريب أنَّ الريبة هو خوف الوقوع في الحرام- بناء على المعنى المعروف لها-، والمراد من الحرام الذي في تعريف الريبة هو الأعم من الزِّنا، بينما الآية المباركة -لو سلمت دلالتها على حرمة النَّظر بريبة- تدلُّ على حرمة مقدِّمات الزِّنا والتي منها النَّظر بريبة الذي يخشى معه الوقوع في الزِّنا لا في مطلق الحرام.

وبعبارة أخرى: الآية المباركة -لو سلمت دلالتها على حرمة مقدِّمات الزِّنا- تدلُّ على حرمة حصة خاصة من النَّظر بريبة وهي النَّظر بريبة ممَّا يخشى معه المكلف من الوقوع في خصوص الزِّنا من المحرمات، أمَّا لو كان النَّظر بريبة يخشى معه من الوقوع في محرَّمٍ آخر غير الزِّنا كاللمس المحرم أو ما شابه فلا دلالة للآية على حرمته، وعليه تكون دلالتها أخص من المدعى.

اللهمَّ إلا أن يُدّعى إلغاء خصوصية الزِّنا بتقريب أنَّ الآية -بعد تسليم دلالتها على حرمة مقدِّمات الزِّنا والتي منها النَّظر بريبة- وإن دلَّت على حرمة النَّظر بريبة الذي يخشى معه من الوقوع في الزِّنا ولكن لا خصوصية للزِّنا بل تشمل كلَّ محرَّم آخر وهو المطلوب إثباته، ولكن إلغاء الخصوصية بعيد، نعم يمكن إلغاء الخصوصية عن الزِّنا لتشمل الآية بعض المحرَّمات المتعلِّقة بالجانب الشهوي والتي تكون برتبة الزِّنا كاللواط لا أكثر من ذلك، وبناء على هذا أيضاً يبقى الاستدلال بالآية أخص من المدعى؛ إذ غاية ما تثبته -على فرض تمامية الاستدلال بها- هو حرمة النَّظر بريبة المؤدِّي إلى الزِّنا أو اللواط أو ما شابه من هذه المحرمات لا مطلق المحرمات، ومحلُّ البحث هو حرمة النَّظر بريبة أي النَّظر المؤدي إلى أيِّ محرَّم من المحرمات ولو لم يكن في رتبة الزِّنا.

التنبيه الثَّاني:

قد تقدّم أنَّ للريبة معاني متعدِّدة([17])، فلو تمَّت دلالة الآية المباركة على حرمة النَّظر بريبة، فأيُّ معنى من معاني الرِّيبة هو المحرَّم بحسبِ الآية المباركة؟

فلو سلَّمنا دلالةُ الآية على حرمة مقدِّمات الزِّنا كالنَّظر بريبة، فهل تشمل الآية كلَّ مستويات ومعاني الرِّيبة الثلاثة المتقدِّمة أم تختصُّ ببعضها؟ 

قد يقال بأنَّ الآية تدلُّ على حرمة كلِّ المقدِّمات المرتبطة بالزِّنا وبالتالي تشمل المستويات الثلاثة للريبة.([18])

وقد يقال في المقابل بأنَّ حرمة المقدِّمات – بناء على تمامية دلالة الآية على حرمة المقدِّمات- لا تشمل المعنى الأوَّل والثَّاني بل تختصُّ بالمعنى الثَّالث وهو النَّظر الذي يوجب خوف الوقوع في الحرام، وما يبدو للنَّظر أنَّ هذا هو الصحيح، أمَّا النَّظر الذي يوجب التصورات أو الميول فيستبعد شمول الآية له، فالأقرب هو أن الآية -بعد التسليم بدلالتها على حرمة ما هو أكثر من ارتكاب نفس الزِّنا وشمولها للمقدِّمات كالنَّظر- لا تشمل النَّظر الذي يؤثِّر في أمر جوانحي وهو التصورات والميول، بل تختصُّ بالنَّظر الذي يؤثِّر في تحقق عمل خارجي وهو خوف الوقوع في الحرام.([19])

المبحث الثالث: حول آية {وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ} ومدى دلالتها على حرمة النَّظر بريبة

قال تعالى: {.. وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وما بَطَنَ ‏..}(الأنعام:151).

وفرق هذه الآية عن الآية السابقة{ولا تقربوا الزِّنى} في أمرين: 

الأوَّل: أنَّ الآية السابقة نهت عن الاقتراب من الزِّنا بينما هذه الآية نهت عن الاقتراب من الفواحش، ومن الواضح أنَّ كلمة (الفواحش) أوسع من الزِّنا.

الثَّاني: توجد إضافة في هذه الآية غير موجودة في الآية السابقة وهي {ما ظهر منها وما بطن}، وهي بمثابة تفسير تعميمي، وسيأتي البحث عن هذه الإضافة بالتفصيل إن شاء الله تعالى.

ثمَّ إنَّه قد يستدل بهذه الآية المباركة على حرمة النَّظر بريبة بنفس التقرير في الآية السابقة فيقال بأن {لا تقربوا الفواحش} لا تعني فقط النهي عن ارتكاب الفواحش بل تعني النهي عن كلِّ ما يوجب ارتكاب الفاحشة بما يشمل مقدِّمات الفاحشة والتي منها النَّظر بريبة، كما أنَّ المراد بالفاحشة هو الزِّنا وأمثاله، وبما أنَّ الآية نهت عن الاقتراب عن الفاحشة -لا عن الزِّنا- فلا نحتاج لإلغاء الخصوصية (أي خصوصية الزِّنا لنثبت بذلك حرمة النَّظر بريبة الذي هو مقدمة لأيِّ محرَّم لا لخصوص الزِّنا) كما احتجنا إليه في الآية السابقة.

والتحقيق حول دلالة الآية في نقاط:

النقطة الأوَّلى: حول معنى القرب

إنَّ في معنى القرب من الفواحش المنهي عنه -كما تقدَّم في البحث عن آية {ولا تقربوا الزِّنى}- ثلاثة احتمالات:

الأوَّل: عدم الارتكاب، وبهذا المعنى لا تكون الآية دالة على حرمة النَّظر بريبة الذي هو من مقدِّمات الفاحشة لا نفسها.

الثَّاني: عدم فعل المقدِّمات التي يحتمل معها احتمالاً عقلائياً الوقوع في الفاحشة، وبهذا الاحتمال تكون الآية منطبقة على محلِّ بحثنا وتدلُّ على حرمة النَّظر بريبة.

الثَّالث: أن يراد المعنيان معاً.

والاستدلال على حرمة النَّظر بريبة يتوقَّف على اختيار المعنى الثَّاني أو الثَّالث، ولكن لم يحصل اطمئنان -كما تقدَّم في الآية السابقة- بإرادة الآية لأحد هذين المعنيين.

النقطة الثَّانية: حول مفهوم الفاحشة

الفاحشة من (فحش) وهو بمعنى تجاوز الحد تجاوزاً بيّناً([21])، وأكثر ما يستعمل في الأمور المذمومة والمنكرة.

قال في المصباح المنير: "كلُّ شيء جاوز الحدَّ فهو (فاحش) ومنه غبن (فاحش) إذا جاوزت الزيادة ما يُعتاد مثله.."([22]).

قال في مجمع البحرين: "كلًّ سوء جاوز حدَّه فهو فاحش"([23]).

وقال ابن فارس: "كل شيء جاوز قدره فهو فاحش، ولا يكون ذلك إلا فيما يُتكرَّه"([24]).

أمَّا في استعمالات القرآن الكريم والروايات الشريفة فإنَّه يتصور للفاحشة أكثر من معنى:

المعنى الأوَّل: مطلق المعصية

وذلك بلحاظ أنَّ كلَّ المعاصي فيها تجاوزٌ وعبورٌ عن الحدود الإلهية وباعتبار أنَّ أمرَ الله تعالى وحدوده واضحة فيكون التجاوز عنها تجاوزاً بيّناً- كما هو المعنى اللغوي الذي قُيّد فيه كون التجاوز بيّناً-؛ فإنَّ هناك عدة مفردات تستعمل للمعصية، منها -إضافة إلى لفظة المعصية-:

  •         -   الذنب. السيئة. الإثم. الفاحشة.

هذه المعاني متساوية من الجانب المصداقي بمعنى أنَّ مصداقها واحد، فالكذب مثلاً مصداق لكلِّ مفردة من هذه المفردات، ولكن في كلِّ واحد منها نكتة وجهة مختلفة، وعليه فإنَّ مفردة (الفاحشة) واحدة من هذه المفردات.

هذا هو المعنى الأوَّل للفاحشة، ولكن قلّما تحمل كلمة (الفاحشة) عليه، ولم يقبله بعض وناقشه بما حاصله أنَّه بحسب هذا المعنى تكون كلُّ معصية فاحشة وعبور وتجاوز عن الحدود الإلهية، والحال أنَّه ليس كل معصية فيها عبور عن الحدِّ، وبالتالي فمفهوم الفاحشة يشمل بعض المعاصي -وهي التي فيها عبور عن الحدود الإلهية- لا كلها.

المعنى الثَّاني: الذنوب الواضحة في القبح والذنوب البارزة

ولكن بحيث يكون أوسع من الذنوب الجنسية ولا يختص بها، فيكون شاملاً للكبائر وما يقرب منها، فيشمل مثل الرِّبا وغير ذلك.

المعنى الثالث: كلُّ ذنبٍ له ظهور وبروز خارجي واجتماعي 

بغض النَّظر عن كونه صغيراً أو كبيراً، والقائل بهذا المعنى قليل.

والفرق بين هذا المعنى والمعنى الثَّاني أن الثَّاني يركّز على كون هذا الذنب قبيحاً وظاهراً في القبح فيكون شاملاً للكبائر وما يقرب منها سواء برزت وظهرت في المجتمع أم لا، بينما هذا المعنى يركّز على جنبة الظهور والبروز في المجتمع حتى لو كان هذا الذنب صغيراً، وعليه:

  1.  لو ارتكب شخص معصية صغيرة(والمراد بالصغيرة المعنى المصطلح لها أي ما لم يتوعد عليه النار أو ما شابه ذلك من معان مصطلحة للصغائر)، ولم تبرز هذه المعصية فهذا ليس من الفاحشة لا بحسب المعنى الثَّاني(لأنَّه تختص الفاحشة بحسب هذا المعنى بالكبائر) ولا بحسب المعنى الثالث (لعدم بروز هذه المعصية).
  2.  لو ارتكب شخص معصية صغيرة وبرزت هذه المعصية في المجتمع فهو من الفاحشة بحسب المعنى الثالث دون الثَّاني.
  3.  لو ارتكب شخص معصية كبيرة دون بروزها في المجتمع فهو من الفاحشة بحسب المعنى الثَّاني دون الثالث(لعدم بروزها).
  4.  لو ارتكب شخص معصية كبيرة ولها ظهور وبروز في المجتمع هو من الفاحشة بحسب المعنيين.

المعنى الرَّابع: الذنوب المرتبطة بالشهوات والجانب الجنسي 

وهذا هو المعنى الذي يأتي للذهن أكثر من غيره، وبناء على هذا المعنى لا يدخل في الفاحشة الذنوب الأخرى -غير المرتبطة بالجانب الجنسي- حتى لو كانت من الكبائر أو صار لها بروز وظهور في المجتمع.

المعنى الخامس: [ذنوب الجانب الجنسيّ من قبيل الزّنا واللّواط]

وهو معنى أخص من السابق، فيكون المراد بالفواحش الذنوب المرتبطة بالجانب الجنسي والتي تكون من قبيل الزِّنا واللواط وما شابه ممَّا يكون من هذا المستوى، لا مثل النَّظر بشهوة الذي هو وإن كان من الذنوب الجنسية ولكنَّه بمستوى أقل قبحاً.

إذن فهذه معانٍ خمسة للفواحش، ولو ترددنا بين هذه المعاني ولم نعرف المراد من الفواحش نأخذ بالقدر المتيقن منها وهو المعنى الخامس أو الرابع، فالمعنييان الرابع أو الخامس هما القدر المتيقن من هذه المعاني، إضافة إلى إمكان القول بأنَّهما المعنييان الظاهران من لفظة الفواحش.

وبعبارة أخرى: يمكن أن يقال بأنَّ المراد من الفواحش هو المعنى الرَّابع أو الخامس، وذلك لنكتتين:

النكتة الأوَّلى: [حصول الإجمال في لفظ الفواحش]

فيتمسك بالقدر المتيقن، والقدر المتيقن هو إمَّا المعنى الرابع أو الخامس، وبيان ذلك:

إنَّ المشترك اللفظي على نحوين:

 النحو الأوَّل: المشترك اللفظي المتردد معناه بين معنيين متباينين أو أكثر، مثل لفظة (عين) حيث إن معانيها (كعين الركبة أو الجاسوس، أو الجارية أو غير ذلك) متباينة.

النحو الثَّاني: المشترك اللفظي المتردد معناه بين معنيين أو أكثر بينها علاقة أعم وأخص، بمعنى أنَّ أحد المعنيين أعمُّ من الثَّاني لا أنَّ بينهما تبايناً، ومثاله لفظة الفواحش حيث إنَّها متردِّد بين هذه المعاني الخمسة التي بعضها أعمُّ من بعض.

في النحو الأوَّل من المشترك اللفظي إذا لم توجد قرينة معيّنة لأحدِ المعاني يكون عندنا إجمال مطلق فلا يمكن التمسك بالدليل، بينما في النحو الثَّاني إذا لم توجد قرينة معيّنة وحصل الإجمال لا يسقط الدليل بل نأخذ بالقدر المتيقن بين هذه المعاني.

والمقام من النحو الثَّاني وبعد حصول الإجمال نتمسَّك بالقدر المتيقَّن منها والذي هو المعنى الرابع أو الخامس.([25])

النكتة الثَّانية: [استظهار أحد المعنيين]

من باب الظهور فقد يستظهر من معنى (الفواحش) أحد المعنيين الرابع والخامس وذلك بملاحظة الاستعمالات وموارد نزول الآيات التي جيء فيها بهذه اللفظة.

وبعبارة أخرى: بحسب هذه النكتة لا يفرض وجود إجمال في لفظ الفواحش بل يمكن استظهار معنى معيَّن من هذه المعاني، والمعنى الذي يمكن استظهاره هو أحد المعنيين الرابع أو الخامس([26]).

وبناء على النكتتين يكون المراد من الفواحش المعنى الرابع أو الخامس إمَّا من باب كونهما القدر المتيقن وإمَّا من باب كونهما المعنيين الظاهرين للفواحش.

تنبيهان:

التَّنبيه الأول:

هذه الآية أقرب من الآية السابقة {ولا تقربوا الزِّنى} لإثبات حرمة النَّظر بريبة وذلك لأنَّه بعد استظهار أن المراد من الفواحش هو المعنى الرابع أو الخامس -أو افتراض تحقق إجمال في معناها والتمسك بالقدر المتيقن الذي هو أحد هذين المعنيين- تكون الآية ناهية عن الاقتراب عن كلِّ الذنوب المرتبطة بالجانب الجنسي والشهواني- سواء أكانت من مثل الزِّنا كما هو المعنى الخامس أم كانت أعم من ذلك كمثل النَّظر بشهوة كما هو المعنى الرابع-، بينما الآية السابقة كانت تختص بالزِّنا. وعليه فلو كانت الآيتان من خلال التعبير بـ {لا تقربوا} تريدان أن تنهيا عن مقدِّمات الفعل فإنَّ الآية السابقة{ولا تقربوا الزِّنى} تنهى عن مقدِّمات خصوص الزِّنا فتثبت خصوص حرمة النَّظر بريبة الذي هو من مقدِّمات الزِّنا ويخاف معه من الوقوع في الزِّنا لا أيِّ محرَّم آخر فتكون أخصُّ من المدَّعى، بينما هذه الآية{ولا تقربوا الفواحش} تثبت حرمة النَّظر بريبة الذي هو مقدِّمة لأيِّ ذنب مرتبط بالجانب الجنسي -كما هو المعنى الرابع- أو الذي هو مقدِّمة لأيِّ ذنبٍ من مثل الزِّنا كاللواط والسحاق -كما هو المعنى الخامس-، ولكن على أيِّ حال تكون هذه الآية محل البحث أوسع وبالتالي هي أقرب من الآية السابقة في دلالتها على حرمة النَّظر بريبة.

التَّنبيه الثَّاني:

لو قلنا بأنَّ الجمع المحلَّى بالألف واللام يدلُّ على العموم فإنَّ لفظة الفواحش من هذا القبيل، وبالتالي هذا يفيد سعة أخرى في معنى هذه الآية أكثر من الآية السابقة{ولا تقربوا الزِّنى}.

النقطة الثَّالثة: في معنى قوله تعالى{ما ظهر منها وما بطن}

هذا التعبير يفسِّر لنا معنى (الفواحش)، وفي المراد منه احتمالات:

الاحتمال الأوَّل: [ما من شأنه أن يكون ظاهراً أو غير ظاهر للنَّاس]

أن هذا التعبير يعمَّم الفواحش والمعاصي إلى نوعين من المعاصي وهما:

 الأوَّل: المعاصي الظاهرة بمعنى المعاصي التي من طبعها -غالباً أو دائماً- أن تقع في الظاهر كمثل الغِيبة والبغي وإذلال المؤمن -في مستوى معين من الإذلال، وإلا فبعض مستوياته لا يكون طبعه الظهور-.

 الثَّاني: المعاصي الباطنة أي التي من طبعها أن تكون باطنة كالمعاصي الجوانحية كالارتداد وسوء الظن أو حتى غير الجوانحية ولكنَّها تكون في الحياة الفردية.

فمراد الآية -حسب هذا الاحتمال- تعميم الفواحش للنوعين الظاهرة والباطنة، فالآية كأنَّها تريد أن تدفع توهم أنَّ المعاصي والفواحش التي تنهى عنها الآية هي خصوص المعاصي الظاهرة، فهي تدفع هذا التوهم بتعميمها للظاهرة والباطنة، وعليه فالاحتمال الأوَّل يشير إلى مجموعتين من المعاصي وهما الظاهرة والباطنة.

الاحتمال الثَّاني: [ما يُرتكب في الظّاهر أو الباطن]

هذه الآية لا تريد أن تعمّم المعاصي إلى نوعين، بل المراد من هذا التعبير {ما ظهر منها وما بطن} المعصية الواحدة في حالتين؛ فإنَّ كلَّ معصية يمكن أن ترتكب في الظاهر ويمكن أن ترتكب في الباطن، والآية تنهى عن هذه الفواحش سواء في العلن والظاهر أم في الباطن والخلوة، وذلك كما نقول في المقابل: أنفق في السر والعلن.

فالآية كما أنَّها تنهى عن ارتكاب الربا في الظاهر وبين الناس فهي كذلك تنهى عن ارتكابه في الباطن والخفاء، فالمراد النهي عن الذنب الواحد في حالتي السر والعلن، بينما بحسب الاحتمال السابق يكون المراد النهي عن نوعين من المعاصي: المعاصي التي من طبعها أن تكون ظاهرة والمعاصي التي من طبعها أن تكون باطنة وهي معاصٍ أخرى غير السابقة.

الاحتمال الثَّالث: [ذات المعصية أو مقدِّماتها]

أنَّ المراد من {ما ظهر} هو نفس وذات المعصية، والمراد من {ما بطن} هو مقدِّمات الذنب وما يكون حوله وما يقرّبنا إليه، فمثال الأوَّل الزِّنا والربا ومثال الثَّاني الأمور التي ليست زناً ولا رباً بل مقدِّماتهما بحيث يخاف مع تلك المقدِّمات من الوقوع في الزِّنا والرِّبا كالنَّظر.

وبعبارة أخرى: المعصية لها مصداقان- مع التجوّز-:

الأوَّل: المصداق الحقيقي للذنب كالزِّنا والربا.

الثَّاني: المصداق الموسّع للذنب، وهو المراد بـ {ما بطن} أي الأمر الذي له رابطة بالذنب ويمكن أن يجرّ إليه، فهو باطن للذنب لأنَّه ليس هو هو بل غيره.

وعلى هذا الاحتمال تنطبق هذه الآية على محلِّ البحث وتدلُّ على حرمة النَّظر بريبة حتى لو رفضنا كون {لا تَقْربُوا} دالة على حرمة المقدِّمات وقلنا بأنَّ المراد بـ {لا تَقْربُوا} هو النهي عن ذات الفعل لا مقدِّماته.

الاحتمال الرَّابع: [جميع المعاني السّابقة]

أن يكون المراد من {ما ظهر منها وما بطن} جميع الاحتمالات السَّابقة.

تحقيق المراد من {ما ظهر منها وما بطن}

أمَّا الاحتمال الرَّابع فهو بعيد لأنَّه يحتاج إلى قرينة قاطعة؛ فإنَّ إرادة مجموعة من المعاني محتملٌ دائماً في كلِّ كلمة ولكنَّه يحتاج إلى قرينة قاطعة وهي مفقودة.

أمَّا الاحتمال الثَّالث -وهو أنَّ المراد من {ما ظهر} نفس المعصية والمراد من {ما بطن} مقدِّماتها- فهو أيضاً بعيد؛ لأنَّه بناء عليه سيكون معنى {ما بطن} معنى مجازياً؛ إذ المقسم لهذين القسمين -وهما ما ظهر وما بطن- هو الفواحش، ومقدِّمات الفواحش ليست من الفواحش فيلزم على هذا الاحتمال ألا يكون هناك مقسم حقيقي للقسمين، وهذا تجوُّز وخلاف الظاهر.

وعليه فالظاهر قوله تعالى {ما ظهر وما بطن} هو الاحتمال الأوَّل أو الثَّاني، ويمكن الجمع بين الاحتمالين، وعلى كلِّ حال لا يكون للآية ربط ببحثنا في إثبات حرمة النَّظر بريبة؛ إذ ظاهر الآية على الاحتمال الأوَّل: اجتنبوا الذنوب والفواحش سواء التي من طبعها أن تكون ظاهرة أم التي من طبعها أن تكون باطنة، وظاهر الآية على الاحتمال الثَّاني: اجتنبوا الذنوب والفواحش سواء في العلن أم في الخفاء. نعم على الاحتمال الثَّالث تكون الآية دالة على حرمة النَّظر بريبة ولكنَّه بعيد كما تقدَّم.

والنتيجة هي عدم تماميَّة هذا الدليل أيضاً.

نتيجة البحث:

أنَّ الآيتين وإن أمكن على بعض الاحتمالات دلالتهما على حرمة النَّظر بريبة، ولكن تبيَّن عدم تماميَّة تلك الاحتمالات، فلا تدلُّ الآيتان على حرمة النَّظر بريبة.

والحمد لله ربّ العالمين.


([1]) هذا البحث عبارة عن تقرير لدروس الخارج في كتاب النكاح لآية الله الشيخ علي رضا أعرافي B بتصرف في الترتيب وغيره.

([2]) الصحاح للجوهري، ج1، ص84، المصباح المنير للفيومي ص129، معجم مقاييس اللغة لابن فارس، ص411، ترتيب كتاب العين للخليل الفراهيدي ج1، ص731، مجمع البحرين للطريحي ص343.

([3]) معجم الفروق اللغوية ص263-264.

([4]) کشف اللثام عن قواعد الأحکام للفاضل الهندي، ج٧، ص٢٣.

([5]) وقد أشار الشيخ مكارم الشيرازي B في تعليقته على العروة إلى أنَّ خوف الوقوع في المحرم متحد مع الفتنة والافتتان، ج2، ص758 حاشية1.

([6]) كتاب النكاح للشيخ الأنصاري، ص55.

([7]) كتاب النكاح للشيخ محمد علي الأراكي، ص22.

([8]) العروة الوثقى طبع جماعة المدرسين، ج5 ص439، والعروة الوثقى والتعليقات عليها، طبع مؤسسة السبطين، ج 15، ص186.

([9]) ولو ورد في البحث ذكر النظر دون ذكر غيره فإنمَّا هو من باب الجري على ما هو الغالب وإلا فلا اختصاص بالنظر كما اتضح في هذا التنبيه.

([10]) الإسراء: 32.

([11]) ولعلَّ منهم صاحب الميزان حيث قال: "قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى‏ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وساءَ سَبِيلًا} نهي عن الزِّنا، وقد بالغ في تحريمه حيث نهاهم عن أن يقربوه‏.."، الميزان في تفسير القرآن، ج‏13، ص، 86.

([12]) الأنعام: 152.

([13]) النساء: 43.

([14]) والظاهر أنَّ مراد آية الله الشيخ أعرافي B من الفحوى هنا هو الأوَّلوية القطعية؛ إذ ما دامت الآية تحرّم مقدمات الزِّنا فهي من باب أولى تحرّم نفس الزنا، فالتحريم لنفس الزنا مستفاد من هذه الأوَّلوية القطعية، وإن لم يستفد من المدلول المطابقي للآية.

([15]) بمعنى أنَّ لفظ القرب وضع بوضعين أحدهما بمعنى نيل الشيء فيكون معنى {لاتقربوا} هو (لا ترتكبوا)، والآخر بمعنى مقدِّمات الشيء فيكون معنى {لا تقربوا} هو (لا تفعلوا المقدِّمات التي يحتمل أنَّها توصلكم للشيء)، ومن الواضح هنا أنَّ استعمال اللفظ الواحد وإرادة المعنيين متوقف على جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى، وهو ما يراه آية الله الشيخ أعرافي سلمه الله تعالى جائزاً -بشرط وجود قرينة- كما أشار لذلك في طيَّات بحثِه.

([16]) بمعنى أنَّ لفظ القرب وضع لمعنى جامع بين المعنيين(أي نيل الشيء، ومقدمات الشيء).

([17]) وهي ثلاثة معانٍ كما تقدَّم:

الأوَّل: النظر الذي يوجب وجود خواطر وتصورات وتخيلات المعصية.

الثَّاني: هو النظر الذي يوجد في نفس الناظر الميل لفعل الحرام.

الثَّالث: هو النظر الذي يوجب خوف الوقوع في الحرام.

([18]) قد يقال في تقريب هذا الاحتمال -وهو الاستدلال بالآية على حرمة النَّظر بريبة بمستوياته الثلاثة- بالتمسك بإطلاق الآية؛ إذ الآية لم تقيّد مقدمات الزِّنا بقيد، فالآية تنهى عن فعل مقدمات الزنا والتي منها النظر بريبة، سواء أكان النظر بريبة يوجب تصورات المعصية أم الميل إليها أم خوف الوقوع فيها، فكما أنَّ النَّظر الذي يوجب خوف الوقوع في الحرام من مقدمات الزنا؛ كذلك النظر الذي يوجب التصورات أو الميل من مقدمات الزنا وإن كان من المقدمات البعيدة له.

([19]) قد يقال بأنَّ الآية -بعد تسليم دلالتها على حرمة مقدمات الزِّنا- مطلقة تشمل المعاني الثلاثة للنظر بريبة كما اتضح ذلك من الحاشية السابقة، فكيف نفرض عدم شمولها للمعنى الأوَّل والثاني من معاني الريبة؟

الجواب: لعلَّ السِّر في ذلك هو الانصراف، فالآية وإن كانت مطلقة بحيث تشمل المستويات والمعاني الثلاثة للنظر بريبة ولكنَّها منصرفة عن المعنى الأوَّل والثَّاني.

([20]) الأنعام: 151.

([21]) لم أجد قيد كون التجاوز بيّناً في ما تمَّت مراجعته من كلمات اللغويين.

([22]) المصباح المنير للفيومي ص240.

([23]) مجمع البحرين للطريحي، ج4، ص414.

([24]) معجم مقاييس اللغة، ص808.

([25]) لعلَّ سبب الترديد بين كون المعنى الرَّابع أو الخامس هو القدر المتيقن هو أنَّ المعنى الخامس أصلا قد لا يمكن فصله عن الرابع بمعنى أنَّه نكتة كون الذنب الجنسي بمثل الزنا لا بمثل النظر بشهوة -والتي هي نكتة الفرق بين المعنى الرابع والخامس- لا تشكِّل فرقاً مهماً وواضحاً بحيث توجب إفراد المعنى الخامس عن الرابع، فإن كانت هذه النكتة تامَّة ومؤثِّرة  فهي توجب إفراد المعنى الخامس عن الرابع فيكون هناك معنى خامس ويكون هو القدر المتيقن، وإن لم تكن هذه النكتة تامَّة ومؤثِّرة ومهمَّة فلا وجود لمعنى مستقل -وهو المعنى الخامس- عن المعنى الرابع فيكون القدر المتيقن هو المعنى الرابع؛ إذ لامعنى خامس أخص منه حسب الفرض حتى يكون هو القدر المتيقن.

([26]) ولعلَّ سرَّ الترديد بين استظهار المعنيين هو نفسه ما تقدَّم في الحاشية السَّابقة.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا