التَّعامل الواعي مع القضيَّة الحسينيَّة

التَّعامل الواعي مع القضيَّة الحسينيَّة

الملخَّص:

حاول المقال معالجة بعض التّساؤلات حول الإحياء العاشورائيِّ التي تَرى شيئاً من المبالغة فيه بلِحاظه أو بالقياس إلى غيره من القضايا المهمَّة. وكانتْ المعالجة مشتملةً على الإضاءة على أربَعة أمور؛ الأمر الأوّل كان لبيان أهميَّة القضية الحسينيّة في الرّوايات. والأمر الثاني أُعدّ لإيضاح ما أسماه بالأهداف العليا للثورة الحسينيَّة ووسائل تحقيقها مهتدياً بأقوال وبيانات الإمام الحسينg. وأمّا الأمر الثالث فحوى ما رآها الكاتبُ اشتباهاتٍ في الإحياءات العاشورائيّة، ضمَّت التهاون بالعبادة، وهفوات الإعلام العاشورائيّ، والاستهانة بالبعد العاطفيّ. وأمّا الأمر الرابع فسلّط الضوء على بعض آثار حضور ذكر الإمام الحسينg في حياة المؤمن.

 

المقدِّمة:

بسمِ اللهِ الرَّحمن الرَّحيم، اللهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وآلِ محمَّد.

إنَّ القضيَّة الحسينيَّة كانت ولا زالت تمثِّل ركناً أساسياً للدين والمذهب، وكما نعرف جميعاً أنَّ عدد الرِّوايات الشريفة التي تحدَّثت عن هذه القضيَّة ربما لم تنلها قضيَّة وواقعة أخرى تأكيداً وتأصيلاً؛ بحيث أصبحت ثورة كربلاء وقائدُها الإمام الحسينg شعاراً دائماً لا ينقطع عنه لسان المؤمن في جميع تفاصيل حياته. وكما ينقل عن السَّيد الإمام x في عبارته المشهورة: "كلُّ ما لدينا من عاشوراء".

وقد يعتقدُ البعضُ أنَّ هناك شيئاً من المبالغة في التَّأصيل لهذه القضيَّة؛ فإنَّ قضايا الإسلام كثيرة، وما يرتبط برسالة النَّبيe أو الوقائع التي وقعت مع أمير المؤمنينg أهمُّ بكثير.

وقد يُشكِل آخر بأنَّكم تُركِّزون على العَبرة والدمعة أكثر من العِبرة، وهو خلاف أهداف الثورة الحسينية.

ويتحدَّث ثالث عن كثرة الانشغال بهذه القضيَّة على حساب القضايا الأخرى، أو كثرة ما يُصرف عليها من أموال، أو تعطيل حياة النّاس وإلخ.. بينما ينبغي التَّركيز على ما له أثرٌ عمليٌ ملموسٌ في حياة النَّاس، واقتصادهم، وأمور معاشهم وغير ذلك.

وهذه التساؤلات والإشكالات تؤكِّد الحاجة الملحَّة لوعي الإنسان المؤمن والموالي أمام هذه التَّصورات والأفكار حول القضيَّة الحسينية، وكيفيَّة التعامل معها، وما هو مقدار ما تستحقُّ من اهتمام، ولهذا كانت هذه المقالة المختصرة، والحديث فيها في نقاط أربعة:

النُّقطة الأولى: أهميَّة القضيَّة الحسينيَّة في الروايات

أهلُ البيتِi -وهم الأعرف بالمهمِّ والأهمِّ وبكيفيَّة التعامل مع قضايا الإسلام- قد تعرَّضوا لهذه المسألة والقضيَّة بشكل مفصَّل، وبشكل سريع وكمدخل للبحث لا بدَّ من الإشارة إلى عناية الرِّوايات حول هذه القضيَّة، وحول قائدها الحسينg، حتى لا يتردَّد المؤمن في أصل أهميَّة هذه القضيَّة.

  1.  فالرِّوايات أكَّدت على البكاء على الحسينg أكثر من بقيَّة المعصومينi، وهذا من الواضحات.
  2.  وكذلك كثرة الرِّوايات الحاثَّة على إقامة العزاء على الحسينg حتّى أصبحت المجالس تسمّى مجالس حسينيَّة تبعاً لما أمر به أهل البيتi.
  3.  وكثرة الرِّوايات الحاثَّة على الزِّيارة الجسديَّة لقبر الحسينg حتى وقت الخوف من القتل وما شاكل، وهذه صارت سيرة للشِّيعة من عصر الأئمةq. وكذلك نرى استحباب زيارتهg في أكثر المناسبات الدينية، كليالي القدر وأيام العيد، والمبعث وغيرها.

فمن الرِّوايات ما عن ذريح المحاربيّ، قال: قلت لأبي عبد اللهg ما ألقى من قومي ومن بنيَّ إذا أنا أخبرتهم بما في إتيان قبر الحسينg من الخير إنَّهم يكذِّبوني ويقولون: إنَّك تكذب على جعفر بن محمَّد، قال: >يَا ذَرِيحُ دَعِ اَلنَّاسَ يَذْهَبُونَ حَيْثُ شَاءُوا واَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ لَيُبَاهِي بِزَائِرِ اَلْحُسَيْنِ واَلْوَافِدُ يَفِدُهُ اَلْمَلاَئِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ وحَمَلَةُ عَرْشِهِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ لَهُمْ: أَمَا تَرَوْنَ زُوَّارَ قَبْرِ اَلْحُسَيْنِ أَتَوْهُ شَوْقاً إِلَيْهِ وإِلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اَللَّهِ أَمَا وعِزَّتِي وجَلاَلِي وعَظَمَتِي لَأُوجِبَنَّ لَهُمْ كَرَامَتِي ولَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّتِيَ اَلَّتِي أَعْدَدْتُهَا لِأَوْلِيَائِي ولِأَنْبِيَائِي ورُسُلِي يَا مَلاَئِكَتِي هَؤُلاَءِ زُوَّارُ اَلْحُسَيْنِ حَبِيبِ مُحَمَّدٍ رَسُولِي ومُحَمَّدٌ حَبِيبِي ومَنْ أَحَبَّنِي أَحَبَّ حَبِيبِي ومَنْ أَحَبَّ حَبِيبِي أَحَبَّ مَنْ يُحِبُّهُ ومَنْ أَبْغَضَ حَبِيبِي أَبْغَضَنِي ومَنْ أَبْغَضَنِي كَانَ حَقّاً عَلَيَّ أَنْ أُعَذِّبَهُ بِأَشَدِّ عَذَابِي وأُحْرِقَهُ بِحَرِّ نَارِي وأَجْعَلَ جَهَنَّمَ مَسْكَنَهُ ومَأْوَاهُ وأُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ اَلْعالَمِينَ<([1]).

      4. هناك ربط كبير جداً بين العبادات والأفعال وبين ما يذكِّر بسيِّد الشّهداءg، كالصلاة على طينِ قبرِه، والتسبيح بسبحةٍ مصنوعةٍ من قبر الحسينg، واستحباب ذكره عند شرب الماء ولعن قاتليه وهو أمر يتكرَّر في اليوم والليلة أكثر من مرَّة، وهو يشير أيضاً إلى أهميَّة القضيَّة الحسينيَّة.

هذه الأمور الأربعة وغيرها تؤكِّد لنا: أنَّ قضيَّة الحسينg ينبغي أنْ تكون حيَّة، مستمرِّة، وحاضرة في كلِّ أفعالنا وعباداتنا، وأنْ لا يغفل عنها المؤمن، فهي تربِّي المؤمنَ تربيةً عمليَّة وبطريقةٍ تجعله لا يمكن أنْ ينسى الحسينg،  وهذا ما يجعل الارتباط الرّوحيّ والمعنويّ بالحسينg قوياً عند المؤمن.

بعد أن ندرك ونعرف هذا الاهتمام الكبير من قبل أئمَّة أهل البيتi بقضيَّة الحسينg، نحتاج أنْ نعرف لماذا كلُّ هذا، لكي نتعامل معها التعامل الصحيح والناتج عن وعي وبصيرة.

النُّقطة الثَّانية: الأهداف العُليا لثورة الإمام الحسينg 

لا شكَّ أنَّ التَّعامل الواعي مع قضيَّة ما لا يتحقَّق إلا إذا عرفنا الأهداف العليا والكبرى لهذه القضيَّة؛ فإنَّ ذلك يؤدّي إلى محاولة تحقيق هذه الأهداف والغايات، والقدرة على مواجهة التشكيكات.

وعلى المؤمن التأمُّل في أنَّ هذا الاهتمام الملفت والثَّواب العظيم الذي أُعدَّ لإحياء ذكرى الحسينg بشتَّى أنواعه من بكاءٍ وعزاءٍ ومجالسَ وطبخٍ، وزيارةٍ .. يدلُّ بلا شكٍ -باعتبار حكمة الله تعالى- على كون قضيَّة الحسينg سببٌ رئيسٌ وأساسٌ لحفظ الدِّين والتَّدين والقيم والمبادئ الإسلامية، فإنَّ الله تعالى لكونه حكيماً لا يُعقل أنْ يأمرَ النَّاس بشيءٍ لا أهميَّة له في ذاتِه، ولا أثرَ له في دين الله تعالى.

وهناك عنوان عام واضح لهذا التحرُّك المقدَّس من قِبل الإمامg، وهو عنوان الإصلاح في الأمَّة، حيث أطلق سيّد الشُّهداء هذا العنوان بقولg: >إِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ اَلْإِصْلاَحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي <([2])؛ ممَّا يدُلُّ على حصول الفساد والانحراف التَّامِّ (في الأمَّة) لولا هذا التَّحرُّك، وهوg يقول: >وَعَلَى اَلْإِسْلاَمِ اَلسَّلاَمُ إِذْ قَدْ بُلِيَتِ اَلْأُمَّةُ بِرَاعٍ مِثْلِ يَزِيدَ<([3])، ووصول يزيد إلى الخلافة التي هي مقام عظيم مع ما عُرِف عنه جهراً من الفسق والفجور يدلُّ على تهاون الأمَّة وانحطاطها بقبول هذا الوضع، وأنَّ السكوت عليه يعني ضياع الإسلام كلِّه حتى على مستوى الظواهر الإيمانيَّة والإسلاميَّة، بل يظهر أنَّ الأمور ستؤدّي إلى الكفر والشرك العلنيّ وترك الإسلام علناً إنْ لم يتمَّ التصدّي لخلافة يزيد مهما بلغت التضحيات، وأنَّ الأمة النّائمة تحتاج إلى صدمة وإلى دم عظيم كدم الحسينg. 

وسائل تحقيق هذا الهدف الكبير

يمكن أنْ يُستفاد من كلماتهg ومواقفه المتنوِّعة ما يشير إلى وسائل عمليَّة هذا الإصلاح:

  1. الأمرُ بالمعروفِ والنَّهي عن المنكر: 

يقولg لأخيه ابن الحنفيَّة: >أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وأَنْهَى عَنِ اَلْمُنْكَرِ<([4]والذي هو من أهمِّ الفرائض التي تقام بها بقيَّة الفرائض، وهي فريضة تشمل كلَّ سلوكيّات الإنسان الفرديّة والاجتماعيّة، فإصلاح الحاكم والدولة المنحرفة تكون بهذه الفريضة وكذلك إصلاح الأفراد والسلوكيّات في المجتمع إنّما تكون من خلال هذه الفريضة.

فحينما يُترك الواجب، ويُعمل الحرام، تأتي أهميَّة هذه الفريضة، يقولg في مسيره إلى كربلاء: >أَلاَ تَرَوْنَ أَنَّ اَلْحَقَّ لاَ يُعْمَلُ بِهِ، وأَنَّ اَلْبَاطِلَ لاَ يُتَنَاهَى عَنْهُ، ليَرْغَبِ اَلْمُؤْمِنُونَ فِي لِقَاءِ اَللَّهِa فَإِنِّي لاَ أَرَى اَلْمَوْتَ إِلاَّ سَعَادَةً، واَلْحَيَاةَ مَعَ اَلظَّالِمِينَ اَلْبَاغِينَ إِلاَّ بَرَماً<([5]).

        2. السَّير بسيرة النَّبيe وسيرة عليg:

قالg: >وَأَسِيرَ بِسِيرَةِ جَدِّي وأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍg([6])<، وهذه الوسيلة الثانية للإصلاح أو قل: المنهج الذي يتمُّ من خلالِه عمليَّة الإصلاح وهو من أهمِّ ما ذكرهg، فكلُّ المسلمين كانوا يدَّعون أنَّهم على الحق، وأنَّهم في الطريق الصحيح، والمعيار لمعرفة ذلك ليس سيرة النبيe فقط فكلٌّ يدَّعي ذلك، ولكنَّ العلامة الواضحة هي سيرة أمير المؤمنينg التي لا تتخلَّف عن سيرة رسول اللهe أبداً ولا تنفكُّ عنها، وكأنَّها إشارة إلى أنَّ سببَ الانحراف في الأمَّة والفساد الذي وصلت إليه إنَّما هو نتيجة طبيعيَّة لإبعاد عليg عن منصب الخلافة والإمامة.

ثمَّ يقولg مؤكِّداً: >فَمَنْ قَبِلَنِي بِقَبُولِ اَلْحَقِّ فَاللَّهُ أَوْلَى بِالْحَقِّ، ومَنْ رَدَّ عَلَيَّ هَذَا أَصْبِرُ حَتَّى يَقْضِيَ اَللَّهُ بَيْنِي وبَيْنَ اَلْقَوْمِ بِالْحَقِّ وهُوَ خَيْرُ اَلْحٰاكِمِينَ، وهَذِهِ وَصِيَّتِي يَا أَخِي إِلَيْكَ، ومٰا تَوْفِيقِي إِلاّٰ بِاللّٰهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإِلَيْهِ أُنِيبُ<([7]).

         3. وممَّا يجدر ذكره في مسألة أهداف ثورة عاشوراء هي مسألة الحفاظ على العبادة والتي رأسها وعمودها الصّلاة، وهذا ما برز في بعض المواقف، فمنها ما روي في يوم عاشوراء وحين اشتداد القاتل أنَّه: "لمَّا رأى ذلك أبو ثمامة الصيداويّ قال للحسينg: "يا أبا عبد الله، نفسي لنفسك الفداء، هؤلاء اقتربوا منك، ولا والله لا تقتل حتى أقتلَ دونَك، وأحبُّ أنْ ألقى اللهَ ربي وقد صلَّيتُ هذه الصَّلاة"، فرفع الحسين رأسه إلى السماء وقال: >ذَكَرْتَ اَلصَّلاَةَ، جَعَلَكَ اَللَّهُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ اَلذَّاكِرِينَ! نَعَمْ، هَذَا أَوَّلُ وَقْتِهَا< ثمَّ قال: >سَلُوهُمْ أَنْ يَكُفُّوا عَنَّا حَتَّى نُصَلِّيَ<([8]).

وهذا الموقف يشير بشكلٍ واضحٍ إلى أنَّه لا يقدَّم على الصلاة شيءٌ أبداً، حتى وهم أثناء المعركة والحرب، وبين السيوف والرماح، فنرى التَّركيز على عمود الدين، وهي الصلاة وفي أوَّل وقتها، ويمكن القول بأنَّ المحافظة على إقامة الصلاة كعبادة إلهيَّة هي من أهمِّ أهداف ثورة الحسينg، بمعنى أنَّه لولا هذه الثورة لضاعت هذه الصلاة وتركت. 

إذاً هناك هدف عام وهو الإصلاح، وهناك وسيلة مهمَّة وهي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وهناك منهج وهو سيرة النبيe وسيرة أمير المؤمنينg، بالإضافة إلى التقيُّد بالواجبات والتي على رأسها الصلاة.

النُّقطة الثَّالثة: بعض الاشتباهات في التَّعامل مع شعائرِ الحُسينg

بعد معرفة أهميَّة قضيَّة عاشوراء ومحوريّتها في الدين والتشيّع، وضرورة إحيائها على الدّوام وإلى يوم القيامة، وبعد معرفة أنَّ أهداف الثورة تتمثَّل في عمليَّة الإصلاح القائم على الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، يظهر أنَّ ضمان عمليَّة الإصلاح في الأمَّة وفي المجتمع وفي كلِّ نواحي الحياة يتوقَّف على إحياء هذه الشعيرة المقدَّسة.

وبتوقّفِ هذه الشعائر -بشتَّى صورِها- سوف يتغلَّب الفسادُ بين الناس، وبقدر ما ستُحيَى سوف يعمُّ الصَّلاح والإصلاح بين النّاس، ولكنَّ الضمانة لحصول الهدف الكبير -وهو "الإصلاح"- في الأمَّة ينبغي أنْ يتحقَّق الإحياء أولاً، وبالمقدار المطلوب ثانياً، وبالطريقة المرضيَّة التي لا تنافي مفهوم الإصلاح ثالثاً.

وهنا نقول:

أولاً: حضور هذا الهدف

لا بدَّ أنْ يَحمل كلُّ فردٍ منَّا -صغيراً وكبيراً، رجلاً وامرأةً- همَّ الإصلاح في نفس عمليَّة الإحياء، يعني أنْ يعيش الخطيبُ، الرادودُ، الباكي، الحاضر في المأتم، المطعِم للطعام، أصحابُ المضيفات، لا بدَّ لكلِّ واحد أنْ يعيش هذا الهدف الكبير والمهمّ، لكي يضمن عدم الوقوع في المحذور، أو أنْ يكون الإحياءُ بدون أثرٍ ملموس.

ثانياً: الأثر المطلوب من الإحياء

ما هو المقصود من وجود أثر ملموس لعمليَّة الإصلاح؟ فهل يعني ذلك هو الجانب المادي المشاهد كأثر، أم أعمُّ من ذلك؟ فقد أصلّي وأرى أثراً واضحاً كاجتناب المحرَّم الفلاني، ولكن هناك آثاراً إمَّا لا يشعر بها الإنسان وإمَّا أنَّه لا يُدرِك أنَّها ضمن الآثار المطلوبة والمقصودة من عملية الإحياء ومن ذكر الحسينg.

ومن هنا تكمن أهميَّة الوعي لمعرفة هذه الأهداف والآثار حتى لا يقع الإنسان في الفكر الخاطئ في التعاطي مع شعائر الحسينg، ولنضرب بعض الأمثلة على ذلك:

1- التَّعامل مع العبادة والسُّلوك

إذا كان الهدف الأعلى -كما تقدَّم- هو إصلاح الأمَّة، فهو قبل أنْ يكون في المنحى السياسيّ والحكم فهو يتجَّه إلى تصحيح عقائد الناس، وإلى سلوكيّاتها وأخلاقها، ومدى تمسُّكها بالشَّرع المقدَّس، والعنصر الذي كان بارزاً في تخوُّف الحسينg من حكم يزيد هو أنَّه >رجلٌ فاسقٌ، شاربٌ الخمر، قاتلُ النَّفس المحرَّمة، معلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله<([9]).

فهنا، ينبغي الحذر الشَّديد جداً، من غياب هذا الجانب في مسألة إحياء عاشوراء، ولا يصحُّ أن يكونَ الإحياءُ للشَّعائر الحسينية سبباً لتركِ فريضةٍ أو عمل معصية، وحتى يتّضح المراد لا بأس بذكر بعض الأمثلة:

المثال الأول: تأخير الصلاة

تقدَّم في النُّقطة الثانية المتعلِّقة بأهداف الثورة، هو ذكر موقف أبي ثمامة الصيداويّ (رضوان الله عليه) في ظهر عاشوراء، حيث ذكر الصلاة ودعا له الإمامg، وهو موقفٌ مهمٌّ جدّاً يدلُّ على كون إقامة الصلاة ممَّا يستحقُّ أنْ تراقُ لأجلها الدِّماء، فهم كانوا في وقت عصيب، والمعركة كانت قد بدأت، والجهد والعطش، والخوف من القتل، ولكنَّ هذا العظيم يتذكر الصلاة في أوَّل وقتها؛ ليقول للمؤمنين إنَّما جئنا لأجل الدفاع عن الصلاة.

ومن بعض المظاهر الّتي قد يقع فيها بعض المحبّين والعاشقين للحسينg هو الغفلة عن الصلاة بسبب السهر في مواكب العزاء فتفوته فريضة الصبح، أو لأجل على المشاركة في تهيئة المأتم، أو تركيب السواد، أو المشاركة في عمليَّة الطبخ فيتصوَّر أنْ تأخير الصلاة لأجل ذلك مبرَّر.

ورسالة الحسينg للمؤمن: أيَّها المحب، أنت مأجور بهذه النيَّة الطيِّبة في الإحياء، ولكن هذا الإحياء إنَّما جاء لأجل الصلاة، فهي همُّك الأوَّل، لا تؤخّرْها، ولا تتساهلْ في ذلك.

وينبغي للمنظِّمين والمسؤولين والمعزِّين ملاحظة وقت الصلاة، بل وحثّ المشاركين على إيقاف كلِّ أعمالهم لأجل إقامة الصلاة في أوَّل وقتها.

المثال الثاني: الاختلاط والتَّبرج 

طبيعة الإحياءات الكبيرة والمهمَّة التي يحبُّ الجميع المشاركة فيها حصول بعض أنواع الاختلاط المذموم شرعاً، تارةً عن غفلة وتارةً عن تساهل، وربَّما هناك فئات -قد تكون قليلة، ولكنَّها تؤثِّر في الجوِّ العام- تتعمَّد إيجاد أجواء مسمومة، فترى بعض النساء تتبرَّج وهي تعرف حرمة ذلك، وتتواجد وسط الرجال تعمُّداً، كما ترى بعض الشباب يتعمَّد التصيُّد والمبادرة للحرام، غافلاً عن عظم وقبح هذا العمل في نفسه، فكيف إذا كان في أجواء إحياء لشعيرة عظيمة من شعائر الدين والمذهب!!

وهذا العمل يعتبر طعنة كبيرة في قلب صاحب المناسبة وهو المولى الحسينg، والمعصية مضاعفة، والعقاب أليم.

المثال الثالث: الخلاف بين المؤمنين 

رايةُ الحسينg هي من أكثر الرَّايات التي أثَّرت وساهمت في توحيد المؤمنين وجمع قلوبهم على التَّقوى، وهذا شيء واضح وملاحظ، خصوصاً في موسم الأربعين، حيث المؤمنون من جميع صقاع الأرض يأتون ولا تجد الفرق بين أحد منهم، بل كلُّهم زوار الحسينg وخَدَمته، وهكذا الحال في البلدان والمدن والقرى التي تحيي هذه المناسبة، فمأتم الحسينg من أعظم الأماكن التي تجتمع فيها القلوب.

 ولكن طبيعة العمل والنشاط الديني في المأتم وفي موكب العزاء التي تكون كالمؤسسة التنظيميَّة والتي تقتضي الحصول على مناصب، فهناك رئيس ونائب ومسؤول القسم الفلانيّ وما شاكل، وطبيعة المنصب -حتى لو كان دينياً- يؤثِّر على نفس الإنسان وأخلاقه، وانشداده إلى الدّنيا؛ لأنَّ للمنصب جنبة دنيويَّة، فإنَّ أحدُ أهمِّ الأسباب للانحراف والظُّلم والخروج عن الدِّين هو الطَّمع في المقام والسُّلطة والحكم، ويزيد وأمثاله لم يجرموا كلَّ هذا الإجرام إلا حرصاً وخوفاً على هذا المنصب.

فالمنصب، حتى لو كان إلهيّاً، ولكن طبيعته -وفيه إمرة، وسلطة، وتحكّم- أنَّه يكون سبباً للطمع والفساد.

ولكن الإنسان المخلص أولاً، والواعي ثانياً لأهداف القضيَّة الحسينية لا يمكن أنْ يجعلَ نفسَ القضيَّة الحسينية سبباً للاختلاف بين المؤمنين، ووجود الشحناء، والتَّنافس غير الشريف؛ لأنَّ الغرضَ والهدفَ من تصدّيه (بعد وعيه لهذه الأهداف التي عنوانها الإصلاح) هو الإصلاح، والسير على وفق المنهج النبويّ والعلويّ وقد كان لهماh مناصب أكبر من التي لدينا، ولكنَّهماh قدما المصلحة وما يصبُّ في سبيل الهدف الإلهي.

فلا يصحُّ ولا يجوزُ أنْ أكونَ سبباً للفتنة بين المؤمنين باسم الحسينg، في المأتم الواحد، وفي القرية الواحدة، وفي البلد الواحد، ومن علامات الإخلاص للقضيَّة الحسينيَّة، هو التَّنسيق بين المآتم والإدارات، وبين المواكب العزائية، بل الاتحاد بين هذه المواكب، بل وحتّى بين المآتم عند الضرورة.

2- التَّعامل مع الفِكرة 

قد أكون إعلامياً، وهي وسيلتي الاقتصادية أو مجرَّد عملية تبليغيَّة، ولكنْ يغيب عنّي هذا الهدف وهو أنّي أعمل ضمن عمليَّة (الإصلاح)، فلا أرى أيَّ أهميَّة لِما ينقل على هذه المنابر المباركة من مواعظ، ومعارف، وقيم، ومبادئ، وعقيدة؛ لأنَّ الفكرة والعبرة هي الأساس، وحينئذٍ يتمُّ التَّركيز فقط على مقاطع النَّعي (مع أهمِّيتها كما سيأتي)؛ فيغيب عنّي أنَّ عنصر الإصلاح من مقوماته (الكلمة) و(الفكرة)، وهذه وإنْ كانت تتحقَّق جزئياً بالنّعي، إلا أنَّها لا تكفي.

وقد يعمد البعض إلى التّركيز في نقله للفكرة إلى ما يوجب الاختلاف من قبل الخطباء، والاقتطاع لأجل السبق والشّهرة، فلان قال كذا، وفلان قصد كذا وهكذا، بينما الإعلاميّ الحسينيّ يركِّز على الأفكار التي تصبُّ في أهداف الثورة الحسينية لأنَّه صاحب رسالة.

مثال آخر: أنا وظيفتي التَّصوير: ما هي الأشياء التي ينبغي أن أفكِّر فيها أثناءَ عملية التَّصوير؟ بعبارة أخرى: ما هو الغرض والهدف من عميلة التَّصوير والنَّشر؟ فإن كنتُ ضمن مشروع الإصلاح الحسيني، وملتفت إلى أهدافه العليا، فسكون أفكِّر في كيفية إيصال هذه الأهداف من خلال عملية التَّصوير، وهكذا الشَّاعر والرَّادود فضلاً عن الخطيب.

3-التَّعامل مع العَبْرَة والدَّمعة

بناءً على الأمر السابق قد يَفهم البعض أنَّ العِبرة والفكرة ما دامت هي الأساس، إذاً لا ينبغي أنْ نضيع الوقت كثيراً في العَبرة والدمعة لأنَّهما مجرَّد وسيلة، فيتمُّ التعامل مع مسألة البكاء بسذاجة وبساطة وقلة وعي، ويتمُّ التقليل من أهميَّتها، وهذه الطريقة من التعاطي فيها خطرٌ كبيرٌ جدّاً على أهداف القضيَّة الحسينيَّة؛ لأنَّ الدمعة هي روح هذه القضيَّة، والمقوِّم الأساس لها، فحتّى لو فهمنا من النّصوص الشريفة -وهو غير واضح- أنَّ الدَّمعة مجرَّد وسيلة، فإنَّنا نفهم منها أيضاً أنَّ هذه الوسيلة لا بديل لها، فهي بمنزلة الهدف والغاية الذاتيّة، ولذلك لا تجد في النّصوص ربط هذه المسألة (الدمعة والبكاء) بشيء آخر بحيث إذا لم يتحقَّق هذا الأمر الآخر فمعناه لا قيمة للدّمعة، مثلاً ورد عن الصادقg: >وَمَنْ ذُكِرَ اَلْحُسَيْنُ عِنْدَهُ فَخَرَجَ مِنْ عَيْنَيْهِ مِنَ اَلدُّمُوعِ مِقْدَارُ جَنَاحِ ذُبَابٍ كَانَ ثَوَابُهُ عَلَى اَللَّهِ عَزَّ وجَلَّ ولَمْ يَرْضَ لَهُ بِدُونِ اَلْجَنَّةِ<([10])، بل أكثر من ذلك ما ورد عنهg أيضاً: >وَمَنْ أَنْشَدَ فِي اَلْحُسَيْنِ شِعْراً فَتَبَاكَى فَلَهُ اَلْجَنَّةُ<([11]).

ولا يسع المجال فعلاً للحديث حول كون الدّمعة بمنزلة الغاية الذاتيّة وأنَّها ليست مجرَّد وسيلة، ولكنْ أقول باختصار: إنَّ الدَّمعة لها تأثير عاطفيٌّ مهمٌّ جدّاً يدعم الجانب المعرفيَّ والعقديَّ، ويؤثِّر حتى على القناعة، فلا يكفي أن تكون الفكرةُ صحيحةً، بل لا بدَّ من إيصالها إلى قلب الإنسان، فليس كلُّ الناس يتمكَّنون من هضم الأفكار، وردِّ الشبهات، ولهذا نجد حتى أصحاب الفكر الضَّال والفاسد، يستخدمون العاطفة، بل لا يوجد أحدٌ لا يستعمل العاطفة في تمرير أفكاره، مثلاً نرى الكيان الصهيوني الغاصب والمحتل لأرض غيره يتباكى ويظهر المظلوميَّة من خلال المحرقة المزعومة، وترى أصحابَ الفكر المنحرف حينما يتمَّ التصدّي له يتمسكن أمامَ الناس ويظهر المظلوميَّة وأنَّه يشهَّر به مثلاً، فهذا أسلوبٌ نراه ونلمسه في كلِّ شيء، فكيف لا يستخدم إذاً في مسألة حقَّة، وليس في ذلك عيب أو تضعيف للفكرة، بل هو تقوية لها، ومن أقوى الوسائل لإدخالها إلى القلوب بل والعقول. ولهذا نرى أنَّ الله تعالى ندب إلى البكاء من خشيته بالإضافة إلى أصل العبادة وقيام الليل.

وكذلك ينبغي أنْ يشهد الجوُّ العام حالة من الحزن الشديد خلال موسم عاشوراء والأربعين، من خلال اللِّباس الأسود، والأعلام السَّوداء، وتعطيل الأعمال في يوم العاشر على أقل تقدير.

النُّقطة الرَّابعة: آثار ذكر الحسينg 

في الختام لا بأس بأنْ نذكرَ نقطة مهمَّة وجوهريَّة لها علاقة كبيرة بموضوع الوعي بالقضيَّة الحسينيَّة، وهي الآثار المباركة لهذه الإحياءات ولذكر الحسينg على النَّفس الإنسانيَّة، وعلى المؤمن بالخصوص، فنقول:

هناك طريقة إلهيَّة في ربط الناس بالدين تتمثَّل بفرض أو استحباب بعض العبادات الدائمة والمستمرة التي تجعل الإنسان لا ينسى ربَّه، كالصّلاة اليوميَّة، وكاستحباب البسملة قبل الأكل والحمد بعدَه، بل والبسملة قبل أيِّ فعل، فإنَّ الالتزام بذلك له الأثر الكبير بصورة لا إراديَّة.

  نعم، قد لا يستفيد البعضُ من الصلاة مثلاً؛ فلا تنهاه عن الفحشاء والمنكر، ولا تكون صلاة حقيقيَّة، ولكنْ ليس ذلك دليلاً على أنَّ فرض الصلاة لا أثر لها لوجود من لا يستفيد منها، فكذلك ذكر الحسينg، فإنَّ الأثر قطعيٌّ وإنْ لم يؤثّر في البعض كمانع فيه، وهذه طريقة استخدمها أهلُ البيتi في العلاقة مع الحسينg ومع ثورته المباركة، فكما تقدَّم استحباب ذكر الحسينg في أكثر المناسبات، والحثُّ على الزيارة، والبكاء، وذكرهg حين الصلاة، وبعد الصلاة، وعند شرب الماء. 

وإضافة إلى ذلك فإنَّ الله تعالى جعل ما يشبه العلاقة التكوينيَّة عند ذكر الحسينg، فقد ورد عن جعفر بن محمدg قال: >نظر النَّبيُّe إلى الحسين بن عليg وهو مقبل، فأجلسه في حجره وقال: إِنَّ لِقَتْلِ اَلْحُسَيْنِ حَرَارَةً فِي قُلُوبِ اَلْمُؤْمِنِينَ لاَ تَبْرُدُ أَبَداً<، ثمَّ قالg: >أَبِي قَتِيلُ كُلِّ عَبْرَةٍ<، قيل: وما قتيل كلِّ عبرة يا بن رسول الله؟ قال: >لاَ يَذْكُرُهُ مُؤْمِنٌ إِلاَّ بَكَى<([12]).

نسألُ اللهَ تعالى أنْ يثبِّتنا على محبَّة الحسينg وخِدمتِه، ويعيننا على البكاء عليه، وأنْ يرزُقَنا في الدُّنيا زيارتَه وفي الآخرة شفاعتَه، إنَّه على كلِّ شيءٍ قدير. 

والحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ على محمَّد وآلِه الطَّيبين الطَّاهرين.


([1]) كامل الزيارات، ابن قولويه، ص272.

([2]) العوالم (الإمام الحسينg)، الشيخ عبد الله البحراني، ص197.

([3]) مثير الأحزان، ابن نما الحلي، ص15.

([4]) العوالم (الإمام الحسينg)، الشيخ عبد الله البحراني، ص197.

([5]تحف العقول، ابن شعبة، ص245.

([6]) العوالم (الإمام الحسينg)، الشيخ عبد الله البحراني، ص197.

([7]بحار الأنوار، المجلسي، ج44، ص329.

([8]) بحار الأنوار، المجلسي، ج45، ص21.

([9]) بحار الأنوار، المجلسي، ج44، ص325.

([10]) كامل الزِّيارات، ابن قولويه، ص202.

([11]) كامل الزِّيارات، ابن قولويه، ص209.

([12]) المستدرك، المحدث النوري، ج10، ص318.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا