الملخَّص:
تعرَّض الكاتبُ في مقالته إلى أهميّة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشريعة الإسلاميَّة، ثمَّ بيَّن شبهة عدم تناسب هذه الفريضة مع زماننا المعاصر، وذكر لها أربعة أدلّة، وناقشها بعدَّة مناقشات، ثمَّ أوضحَ الآثار السلبيَّة المترتِّبة على ترك هذه الفريضة، وختم المقالة ببعض التوصيات المهمَّة.
المقدّمة
لقد أولى الإسلام أهمية بالغة تجاه فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى أنّ الإنسان ليتعجَّب من كثرة الروايات التي وردت في هذه المسألة! ويمكن استكشاف أهميَّة هذه الفريضة من خلال الأمور التالية:
الأمر الأوَّل: فريضة تُقام بها الفرائض
فقد ورد في الرواية: >إِنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ سَبِيلُ الأَنْبِيَاءِ، ومِنْهَاجُ الصُّلَحَاءِ، فَرِيضَةٌ عَظِيمَةٌ بِهَا تُقَامُ الْفَرَائِضُ، وتَأْمَنُ الْمَذَاهِبُ، وتَحِلُّ الْمَكَاسِبُ، وتُرَدُّ الْمَظَالِمُ، وتُعْمَرُ الأَرْضُ، ويُنْتَصَفُ مِنَ الأَعْدَاءِ، ويَسْتَقِيمُ الأَمْرُ<([1]).
فجميع الفرائض في أبواب الفقه -من العبادات والمعاملات- لا تُقام إلا إذا أقمنا فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنَّه من دونها، أعداءُ الدين يتقلّدون زمام الأمور، ويتلاعبون بالدين، ويضعون ويمنعون ما يشاؤون في الدين.
وقد سمعنا وقرأنا عمّا حدث في تركيا -مثلاً- بعد سقوط الدولة العثمانية، وكيف أنَّه قد تمَّ إغلاق المساجد، وأُلغيت الكثير من الشعائر، ومُنع ارتداء الحجاب، وغيرها من الأمور والتي امتدّت آثارها إلى يومنا هذا.
الأمر الثَّاني: كثرة التهديد الوارد بشأن ترك هذه الفريضة
إنّ الملاحِظ لروايات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -وسيأتي بيان بعضها في آخر البحث- يلاحظ أنَّها كثيراً ما تهدِّد بوقوع الكثير من المشكلات فيما لو تُركت هذه الفريضة، بحيث لا تجد مثل هذه التهديدات الكثيرة بالنسبة لأيِّ تكليف آخر، وهذا يكشف عن الأهميَّة البالغة التي تحوزها فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الأمر الثَّالث: ارتباط ولاية المؤمنين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إذا راجعنا القرآن الكريم نجد أنَّه قد رَبط بين ولاية المؤمنين بعضهم ببعض وبين فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}([2]).
فالله سبحانه وتعالى أعطى ولايةً للمؤمنين بعضهم على بعض، ومقتضى هذه الولاية أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فهناك ارتباط عميق بين هذه الولاية وبين فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بحيث يكون التخلّي عن هذه الفريضة هو تَخلٍّ عن تلك الولاية، ممّا يكشف عن أهمّية هذه الفريضة.
إذاً، أهمّية فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمرٌ لا يُنكَر في الإسلام. ولأنّ هذه الفريضة تمتلك تلك الأهميَّة البالغة فإنّ أعداء الأمّة الإسلامية يسعون إلى التقليل من أهمّيتها في نفوس المسلمين؛ وذلك عن طريق طرح المفاهيم البديلة والمستوردة من الغرب، أمثال مفهوم الحرية، والديمقراطية، والتسامح، والتنوّع الثقافي، وغيرها من المفاهيم البرّاقة، والتي قد يكون لبعضها جذوراً في الإسلام أيضا،ً إلا أنّهم حينما يروّجون تلك المفاهيم في مجتمعاتنا فإنّ لهم أهدافاً خبيثة من وراء ذلك، وقد نجحوا في استغفال شريحة كبيرة من الناس بتلك المفاهيم الغربية، فصاروا يردّدونها في مجتمعاتنا، ويروّجونها، سواء كان ذلك بشكل مقصود أم غير مقصود، ولهم في ذلك أساليب متعدّدة ومتنوّعة.
من تلك الأساليب الخطيرة هو أسلوب بثّ الشبهات، والتي منها دعوى أنّ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تتناسب مع زماننا المعاصر، فلا بدّ من إلغاء هذه الفريضة أو تغيير جوهرها بما يتناسب مع الجيل الحالي والتطوّر البشري.
ولأجل بيان هذه الدعوى وردّها، ومن خلال هذا المقال، نوقع الكلام في عدّة مقامات فيما يأتي.
المقام الأول: بيان أصل الدعوى وأدلَّتها
حاصل الدعوى: إنَّ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنَّما كانت مناسبة لزمن النبيe ومَن بعده مِن الصحابة والتابعين؛ باعتبار أنّ الحالة السائدة في المجتمع آنذاك كانت أكثرها مبنيّة على الجهل، والتعصّب، وسوء الخُلُق، والحياة البربريّة. وبالتالي لم يكن باستطاعة الدولة الإسلامية الفتيّة ضبط هذه الحالة المنفلتة إلا بفرض رقابة شديدة بين كلّ شخص والشخص الآخر، وذلك تحت عنوان (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
أمّا اليوم في زمننا المعاصر، ومع تطوّر الحالة المجتمعية على جميع الأصعدة والمستويات؛ من الناحية العلميّة، والمعيشيّة، والأخلاقيّة، وغيرها، لم يَعُد من المناسب فرض هكذا رقابة في المجتمع، بل صار ذلك أمراً ممقوتاً ومرفوضاً، فاليوم، قد وصل العالم إلى مرحلة متقدّمة جدّاً من الناحيّة الفكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة وغيرها؛ بحيث أصبح العالم عالماً تسوده مجموعة من الحقوق الإنسانيّة التي أقرّها الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، والتي لا يمكن لأحد التنصّل منها؛ لأنّها مبنيّة على أساس الحقّ الطبيعيّ للإنسان، فهي تعمّ جميع البشر على حدٍّ سواء.
ويمكن أن نذكر مجموعة من الأدلّة على هذه الدعوى:
الدليل الأوَّل: عدم تناسب أحكام الإسلام مع التطوّر الإنساني
هذا الدليل ينكر تناسب أصل أحكام الإسلام -بشكل عامّ- مع التطوّر الإنساني، وليس خصوص فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك بدعوى: أنّ أحكام الشريعة إنّما تأتي بما يتناسب مع أهل كلّ عصر، وبما ينسجم مع البيئة الجغرافيّة والنفسيّة والمزاجيّة بالنسبة لهم، ولا يمكن أن تكون الأحكام ثابتة لكلّ زمان ومكان.
ومن المعلوم أنّ الإنسان في تطوّر مستمرّ من جميع النواحي؛ من الناحيّة الثقافيّة، والفكريّة، والمعيشيّة، والسياسيّة، والتقنيّة، وغير ذلك، وبناءً على ذلك، فإنّ هذا التطوّر البشري المستمرّ يفرض علينا أن نوجِد نمطاً آخر من الأحكام والتشريعات تتناسب مع عصرنا([3]).
الدليل الثَّاني: التعارض مع الحريّة الشخصيّة
وهذا الدليل يرتبط بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشكل خاص، وحاصله: إنّ الحرية الشخصية حقّ من حقوق الإنسان، وليست منحةً من أيّ جهة، وهذا الحقّ لا بدّ أن يُصان ويُحفظ، فكلّ إنسان له الحقّ في ممارسة ما يريد في دائرة حريّته الشخصية. وهذا ما كفلته الدساتير الدوليّة، والإعلان العالميّ لحقوق الإنسان. وبالتالي لا تكون هناك موقعيّة لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنّها تعتبر تدخّلاً في شؤون الغير، وسلباً لحقّ الحريّة الشخصيّة من الآخرين.
ثمّ إنّه لو أردنا أنْ نستقطب الناس للدخول في الإسلام فينبغي علينا أنْ نُكثر من الحديث عن الحريّة؛ فإنّ شعوب العالم اليوم إنّما تتوق إلى مثل هكذا خطاب عن الحريّة والديمقراطيّة وما شابه ذلك، لا الحديث عمّا يقيّد الحريّات كما في مثل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنّها اليوم تعتبر من الفضول وسوء الأدب، فتكون عاملاً منفّراً عن الدخول في الإسلام([4]).
الدليل الثَّالث: أنّها لغة العنف
وحاصل هذا الدليل: إنّ عالم اليوم هو عالم التسامح والحبّ واللّطف، ولا يقبل لغة العنف والتشدّد والتعصّب. فهذا الزمان لم يَعُدْ كما كان في زمن النبيe الذي يعتبر زمن البربريّة والجاهليّة، والتي كانت تناسبه الأحكام العنيفة والتشدّد، فاليوم لم تَعُدْ الأحكام الشرعيّة -التي هي من قبيل: الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحدود الشرعيّة من قطع يد السارق، والجلد، والرجم، وغيرها- مقبولة في المجتمعات البشريّة، فهي أحكام قد انتهى تاريخ صلاحيّتها، ولا تُناسب لغة العالم اليوم، وإنّما كانت تناسب لغة ذلك الزمان، أمّا في أيامنا هذه فأصل التلفّظ بهذه الأحكام -والتي منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- يُعتبر قبيحاً([5]).
الدليل الرابع: نسبيّة المعروف والمنكر
وحاصل هذا الدليل: إنّ المعروف والمنكر أمران نسبيّان، وليسا مطلقين، بمعنى أنّ المعروف والمنكر يختلفان في التوصيف بالنسبة إلى كلّ مجتمع، والشاهد على ذلك أنّنا إذا استقرأنا الواقع الخارجي نجد أنّ المجتمعات تختلف في تحديد وتوصيف ما هو معروف وما هو منكر، فمثلاً بعض الشعوب ترى أنّ (القتل الرحيم) هو أمرٌ حسن ومن مصاديق المعروف، والبعض الآخر يراه أنّه أمرٌ قبيح ومن مصاديق المنكر، وهذا شاهد على نسبيّة الأخلاق بشكل عامّ.
وبالتالي ما تراه أنتَ معروفاً ليس بالضرورة أن يكون كذلك عند غيرك، وما تراه أنتَ منكراً ليس بالضرورة أن يكون كذلك عند غيرك، فلا يحقّ لك أن تأمر بما تراه أنت معروفاً دون غيرك، ولا يحقّ لك أن تنهى عمّا تراه أنت منكراً دون غيرك. فلا مجال للقول بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
المقام الثَّاني: مناقشة الدعوى وأدلّتها
بعد أن بيّنا أصل الدعوى والأدلة التي يمكن أن يستدلّ عليها، يمكن أن نناقش الأدلة المتقدّمة بعدّة مناقشات، نذكر منها ما يلي:
مناقشة الدليل الأوّل:
أمَّا الدليل الأوّل -وهو عدم تناسب أحكام الإسلام مع التطوّر الإنساني- فقد نوقش بالعديد من المناقشات المفصّلة([6])، ونحن هنا نذكر شيئاً ممَّا بتناسب مع المقام:
أولاً: إنّ هذا الكلام مجرّد دعوى، ولا يرقى إلى كونه دليلاً علمياً، وإنما هو مجرّد استحسانات وذوقيّات من دون دليل قطعيّ، وإلا فكلّ منصف يبحث عن الحجيّة الشرعيّة بينه وبين الله فإنّه لا يعتمد على مثل هذه الادّعاءات، بل لا بدّ أن يحصل على دليل قطعيّ حتى يُفرغ ذمّته.
ثانياً: إنّ الناس في زمن النبيّe والأئمةi لم يكونوا على ثقافة واحدة وفي مكان واحد، فالنبيe دعا إلى الإسلام مجموعةً من الشعوب المختلفة، منهم العرب والفرس والروم وأهل الحبشة، والحال أنّ ثقافاتهم مختلفة، وحضاراتهم متنوّعة، وأماكنهم متباعدة، ومع ذلك كانت الشريعة واحدة للجميع، كما أنّه على مدى حياة الأئمةi التي استمرّت قرنين ونصف من الزمن، ومع توسّع الدولة الإسلامية ودخول ثقافات عديدة، لم نسمع أنّ أحداً من الأئمةi أو غيرهم دعا إلى تغيير الشريعة وأحكامها بدعوى عدم تناسب الأحكام الشرعية مع الجميع. وهذا يعني أنّ أحكام الشريعة الإسلامية يمكن تطبيقها على مرّ العصور والأزمان مع اختلاف الثقافات والحضارات والأمكنة.
ثالثاً: إنَّ الفقه الإسلامي فيه قابلية التكيّف مع حياة الإنسان على مرّ العصور؛ إذ إنّ أحكام الإسلام منها ما هو ثابت، ومنها ما هو متغيّر، وفيه مجموعة من القواعد الكلّية التي يمكن للفقيه أنْ يستنبط منها الأحكام الشرعية وتطبيقها على الموضوعات المستجدّة. كما أنّ هناك مساحة واسعة في الفقه الإسلامي تسمّى بـ (منطقة الفراغ) والتي تعطي للفقيه ووليّ الأمر صلاحيّة منح الوقائع في تلك المنطقة صفة تشريعية ثانوية بحسب الظروف كما يعبّر الشهيد الصدرN([7]).
مناقشة الدليل الثَّاني:
أمَّا الدليل الثَّاني -وهو دعوى أنّ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتعارض مع حقّ الحريّة الشخصيّة للإنسان- فيمكن الجواب عنه بالتالي:
أولاً: لا توجد دولة في العالم تعطي حقّ الحرية للأفراد بشكل مطلق، وإنما الحرية دائماً تكون مقيّدة بقوانين معيّنة، وإلا للزم الهرج والمرج في المجتمع. وهذا التقييد يرجع إلى ثلاثة أمور([8]):
الأمر الأول: عدم تجاوز القانون.
الأمر الثاني: عدم التعدّي على حريّات الآخرين.
الأمر الثالث: عدم محاربة نظام الدولة.
فمثلاً جاء في الدستور الفرنسيّ المادّة (4) من الباب الأول: "تشارك الأحزاب والمجموعات السياسية في ممارسة حقّ الاقتراع، ويتمُّ تشكيلها وتمارس أنشطتها بكلّ حريّة، ويتعيّن عليها احترام مبادئ السيادة الوطنيّة والديمقراطيّة".
وبالتالي إذا كان تقييد الحريّات في تلك المجتمعات والدول بما يتناسب مع نظامها الفكريّ والسياسيّ يعتبر حقّاً من حقوقها، فلماذا الدولة الإسلاميّة لا يحقّ لها ذلك؟! فمن حقّ الدولة الإسلاميّة أن تشرّع مجموعة من القوانين التي تقيّد الحريّات بما يتناسب مع نظامها الإسلاميّ أيضاً، حالها كحال سائر الدول، فصحيح أنّ الحرية أمر مقدّس في الإسلام، ولكن بما لا ينقض غرض الدولة الإسلاميّة ونظامها.
ثانياً: إنّ إنسان اليوم في كلّ أرجاء العالم يمارس -بشكلٍ أو بآخر- مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن لم يكن مسلماً، ولا يعتبر ذلك تقييداً للحريّة، ممّا يعني أنّ هذه المسألة عقلائية جدّاً، فلماذا يُستنكر على الإسلام تشريعه لهذه الفريضة؟!
مثلاً نجد الناس في المجتمعات الغربيّة وغيرها يستنكرون على الشخص الذي يرمي الأوساخ على ساحل البحر، أو يرميها في الطرقات والشوارع، ويوبّخونه على فعله هذا، فهذا يعتبر نحواً من أنحاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يوصف هناك بأنّه تقييد للحرية.
بل إنَّ ما نشاهده اليوم من تأسيس مجموعة كبيرة من المؤسّسات والجمعيات لحفظ حقوق الإنسان، وحفظ حقوق الحيوان، وحفظ البيئة، وغيرها، بحيث نجدها تستنكر على الدول الأخرى التي لا تلتزم بتلك المعايير والحقوق، كلّ ذلك يعتبر من أساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثالثاً: صحيح أنّ الإسلام شرّع فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن ذلك لا يعني ترك الأمور على عواهنها، بحيث يُترك الأمر للناس يقومون بما يريدون من دون ضوابط ومن دون حسيب ولا رقيب، وإنما أداء هذه الفريضة لا بدّ أن يخضع لقانون ومقرّرات وآليّات تقرّها الدولة الإسلامية بما يحفظ بقاء تلك الفريضة الإلهيّة ولا يُلغيها، وبالتالي لا يمكن التجاوز على القانون باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فهذا مآله إلى الهرج والمرج أيضاً.
رابعاً: إنّ المجتمع الإسلاميَّ له مجموعة من الحقوق التي لا بدّ أن تُحفظ وتُصان، ومن تلك الحقوق حقُّه في أنْ يعيش في بيئة متديّنة وملتزمة بالتعاليم الإسلاميّة، فإذا جاء من يريد أن يتجاهر بالفسق، ولا يبالي بالحالة الإيمانيّة والمتديّنة في المجتمع، فهو في الحقيقة يتعدّى على حقّ من حقوق المجتمع، فبالتالي من حقّ أفراد المجتمع أن تردعه عن ذلك، وتنهاه عن المنكر، وتنصحه وتعظه؛ لأنّ في ذلك حفاظاً على صالح المجتمع.
مناقشة الدليل الثالث:
أمَّا الدليل الثالث -وهو أنّ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعتبر من لغة العنف اليوم- فيمكن أن يناقش بالتالي:
أولاً: لا نسلّم أنّ لازم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العنف دائماً، بل هذه الفريضة لها مراتب، تبدأ بالإنكار القلبيّ، ثم تتدرّج بالإنكار الفعليّ والقوليّ، يبدأ من لغة اللّين والنصح والموعظة الحسنة، ثمَّ في نهاية المطاف إذا لم تنفع جميع الطرق المتقدّمة تصل النوبة إلى مرحلة الحزم والجزم، فليس هناك لغة عنف كما يُدّعى إلا في المرحلة النهائيّة وبعد استنفاذ جميع السُبل والطرق.
ثانياً: إنّ الوقوف أمام المنكرات والمفاسد ليس من العنف في شيء، فحينما أقف ضدّ الشذوذ الجنسيّ أو الزواج المثليّ والمثليّين مثلاً، فهذا لا يعتبر عنفاً، وإنما هو تحرّك من أجل حفظ الصحة الأخلاقيّة والروحيّة والمعنويّة في المجتمع، والبعض يُصوّر أنّ مجرَّد استنكار هذه الأمور يعتبر من العنف!
إنّ السعي نحو ترويج ثقافة التسامح والتساهل في مجتمعاتنا ليس بريئاً، وإنَّما من أجل إلغاء فاعلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما يقول الشيخ المصباحN([9])، فهناك مَن يسعى لتصوير كلّ اعتراض على أنَّه من العنف والتشدّد، فيُروّجون بين الناس مثلاً بأنَّ كلَّ الأديان على صراط مستقيم، وأنَّه ينبغي التعامل مع الجميع بتسامح، وأنّ كلّ زواجٍ هو على حدٍّ واحد، وينبغي التسامح مع الزواج المثليّ، فيكرِّرون مثل مصطلح التسامح والتساهل بشكل كبير حتى يُعدّ من يخالف هذه الأمور متشدّداً ومُنظِّراً للعنف.
وللأسف بسبب تكرار هذه المفاهيم في مجتمعاتنا صار الكثير متأثّراً بها، بل صار الكثير يعتقد أنَّه في هذا الزمان ليس بالإمكان التشدّد كثيراً في مسائل مثل وحدة الدين الحقّ، وضرورة إجراء أحكام الإسلام، وغيرها من الأمور([10]).
مناقشة الدليل الرابع:
وأمَّا الدليل الرابع -وهو نسبيّة المعروف والمنكر- فقد فصّلنا الكلام فيه في بحثنا الموسوم بعنوان (تداعيات نظرية نسبيّة الأخلاق على المجتمع)([11])، ولكن تتميماً للبحث نذكر ما يلي في مقام المناقشة:
أولاً: إنَّ هذا الاختلاف في توصيف بعض الأفعال -بأنَّها حسنة أو قبيحة- وإن وُجد، إلا أنَّه لا يُثبت النسبيّة؛ لأنَّه يُحتمل أن يكون هذا الاختلاف في التوصيف راجعاً إلى شيء واحد، ولكن في مقام الإبراز والتعبير عن هذا الشيء الواحد يقع الاختلاف.
فمثلاً: نجد المجتمعات تتّفق على احترام الوالدين بعد الموت، أو احترام الميّت بشكل عام، ولكن يختلفون في كيفية إبراز هذا الاحترام، فمثلاً في مجتمعٍ من المجتمعات يقومون بإحراق الميّت، وفي مجتمعٍ ثانٍ يقومون بدفنه بلباسه وأمواله، وفي مجتمعٍ ثالث يقومون بإلقائه في النهر، وهكذا، فهذا الاختلاف كلّه يرجع إلى مسألة احترام الوالدين، أو احترام الميّت، وإنما الاختلاف في تطبيق ذلك المفهوم، وهذا لا يُثبت النسبيّة.
ثالثاً: كثير من الأمثلة التي تُذكر على أنّ فيها اختلافاً في التوصيف ترجع في الحقيقة إلى تقديم الأهمّ على المهمّ، وهذا لا يعني أنّ هناك نسبية في الأخلاق([12]). فالكذب -مثلاً- قبيح، ولكنْ إذا كان يتوقّف عليه حفظ نفس محترمة -مثلاً- فإنه يُقدَّم حفظ النفس على الكذب؛ لأنّ ملاكه أهم.
ثالثاً: إنّ محلّ النزاع والكلام في نسبيّة الأخلاق أو إطلاقها هو فيما إذا كان هناك فعل واحد، ونظر إليه الطرفان -أي القائلون بالأخلاق النسبية والقائلون بالأخلاق المطلقة- بنظرة واحدة من دون وجود عوامل خارجية مؤثّرة، فهنا يقع الكلام هل هذا الفعل الواحد يكون نسبيّاً أو لا؟ يعني هل يحكم عليه أحدهم بالصحة والحُسن والآخر بالخطأ والقبح أو لا؟ هذا هو محلّ الكلام، وإلا فحتى من يقول بأنَّ الأخلاق مطلقة فهو لا ينفي وجود اختلاف في توصيف بعض الأفعال بسبب وجود عوامل خارجية، أمَّا مع عدم وجود عوامل خارجة مؤثّرة فالعقل يحكم بحسن العدل وقبح الظلم مطلقاً، ويحكم بحسن الصدق وقبح الكذب مطلقاً، ويحكم بحسن الأمانة وقبح الخيانة مطلقاً، وهكذا.
رابعاً: القائلون بنسبيّة الأخلاق يدّعون أنّ الاختلاف في الأخلاقيّات وتوصيف الأفعال بين المجتمعات يعود إلى اختلاف سليقة الفرد أو سليقة المجتمع، ولكنْ نقول: لعلّه لا يرجع أصلاً إلى الاختلاف في السليقة، وإنَّما يعود في كثير من الموارد إلى التهرّب من الالتزامات العمليّة فيما لو قَبِل بهذه الأخلاق.
ولتوضيح هذا المعنى نقول: هناك بعض الأمور لو اعتقدتَ بها والتزمتَ بها فإنّ ذلك لا يحمّلك عواقب تحمّل المسؤوليّات والالتزامات العملية، مثلاً: لو اعتقدت بأنّ الماء يتبخّر عند درجة حرارة 100 مثلاً، فهذا لا يخلق أمامك مسؤولية والتزام عملي تجاهه، فطبيعيّ أنَّه لا يوجد داعٍ حينئذٍ يؤدّي إلى الاختلاف فيه، ولكنْ هناك بعض الأمور إذا اعتقدت بها فإنَّه سوف يؤدّي ذلك إلى بعض الالتزامات والمسؤوليّات العملية، ومنها الاعتقاد بأنّ هذا الفعل حسن فينبغي فعله، وذاك الفعل قبيح فينبغي تركه، فهذا الاعتقاد يعني أنّني لا بدّ أن أعمل على وفق ما أعتقده، فأكون مسؤولاً عن ذلك، والإنسان بطبعه لا يميل إلى تحمّل المسؤوليّات.
وبالتالي من الممكن جدّاً أنّ الاختلاف الحاصل في بعض الأخلاقيّات وتوصيفها إنَّما نشأ بسبب التهرّب من تحمّل المسؤولية والالتزام، لا أنّ الأخلاق لا واقعية لها سوى سليقة الفرد أو المجتمع.
إذاً، بعد اتّضاح هذه المناقشات يتّضح أنّ نظرية (نسبيّة الأخلاق) لا تصمد أمام نظرية (الأخلاق المطلقة) التي نؤمن ونقول بها نحن الإسلاميّون.
المقام الثَّالث: الآثار المترتّبة على ترك هذه الفريضة
توجد مجموعة كبيرة من الآثار الخطيرة المترتّبة على ترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد حذّرت الروايات العديدة كثيراً من ترك هذه الفريضة العظيمة؛ لما يترتّب عليها من آثار سلبية خطيرة، ويمكن أن نذكر شيئاً من تلك الآثار:
الأثر الأوَّل: انحراف الدين
الإنسان بطبيعته ميّال إلى زخارف الدنيا وشهواتها، ويتأثّر بها بسرعة؛ وذلك باعتبار توفّره على القوّة الشهوية والقوّة الغضبية اللّتان تدفعانه إلى إشباعهما مهما أمكن، ولذا يحتاج الإنسان إلى أنْ يسيطر على تلك القوى ويجعلها على حدّ الاعتدال، وإلا فَقَدَ إنسانيّته وصار أدوَن من البهائم، وهذه السيطرة لا تحصل إلا بتغليب جانب العقل عنده، فبالقوّة العاقلة يمكنه أنْ يسيطر على تلك القوى ويضعها على طريق الاعتدال.
لكنْ مع ذلك لا يكفي العقل لوحده؛ لأنّ الإنسان إذا عاش في بيئة فاسدة وغير ملتزمة بأحكام الشريعة فإنّ قواه الأخرى تتهيّج وتتغلّب على الجانب العقلي عنده، وبالتالي ما لم يكن المجتمع متديّناً فإنّ الإنسان يصعب عليه المحافظة على دينه والسيطرة على شهواته وغرائزه.
ومن هنا تبرز أهميّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ باعتبارها أهمّ وسيلة يمكن من خلالها المحافظة على البيئة المتديّنة في المجتمع، وبالتالي يمكن للإنسان أن يحافظ على دينه وتديّنه.
وهذا ما أشارت إليه الروايات المتعدّدة، كما ورد عن أمير المؤمنينg: > قِوَامُ اَلشَّرِيعَةِ اَلْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَاَلنَّهْيُ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَإِقَامَةُ اَلْحُدُودِ<([13]).
وكذلك ما ورد عن الإمام الباقرg في رواية طويلة: >إِنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ سَبِيلُ الأَنْبِيَاءِ، ومِنْهَاجُ الصُّلَحَاءِ، فَرِيضَةٌ عَظِيمَةٌ بِهَا تُقَامُ الْفَرَائِضُ، وتَأْمَنُ الْمَذَاهِبُ، وتَحِلُّ الْمَكَاسِبُ، وتُرَدُّ الْمَظَالِمُ، وتُعْمَرُ الأَرْضُ، ويُنْتَصَفُ مِنَ الأَعْدَاءِ، ويَسْتَقِيمُ الأَمْرُ<([14]).
فمن دون إقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يمكن أو يصعب المحافظة على أحكام الشريعة.
الأثر الثاني: الفساد المجتمعيّ
نحن نشاهد بالوجدان ما هو حال بعض المجتمعات التي ابتعدت عن الدين والتديّن، وتركت مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكيف أنَّها ابتُليَت بشتّى أنواع المشاكل الاجتماعية، فنشاهد كيف وصل الحالُ بالأسرة في تلك المجتمعات الغربية مثلاً من التفكّك والانهيار، ونقرأ التقارير عن الكمّ الهائل من المواليد غير الشرعيين والذين تؤويهم دور رعاية الأطفال، ونشاهد كيف انتشرت المخدّرات بينهم بشكل كبير، ومدى إدمان الكثير منهم على الخمور والمسكرات والمخدّرات، وكذلك نشاهد انتشار الجرائم بشتّى أنواعها من القتل والسرقات والتحرّش والاغتصاب وغير ذلك، وهذه الأمور غير مخفيّة، بل هي منتشرة ويمكن الوصول إليها بالانترنت بسهولة.
فهذا كلّه نتيجة حتميّة مترتّبة على الابتعاد عن الدين، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنَّ التجاهر بالفسق يؤدّي إلى تشجيع الباقي من أهل المعاصي أن يتجاهروا بفسقهم أيضاً، وهكذا تنتشر المفاسد ويحصل الإضرار بالمجتمع.
ففي الرواية عن رسول اللهe: >إِنَّ اَلْمَعْصِيَةَ إِذَا عَمِلَ بِهَا اَلْعَبْدُ سِرّاً لَمْ تُضِرَّ إِلاَّ عَامِلَهَا، وَإِذَا عَمِلَ بِهَا عَلاَنِيَةً وَلَمْ يُغَيَّرْ عَلَيْهِ أَضَرَّتِ اَلْعَامَّةَ<، قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍg: >وَذَلِكَ أَنَّهُ يُذِلُّ بِعَمَلِهِ دِينَ اَللَّهِ، وَيَقْتَدِي بِهِ أَهْلُ عَدَاوَةِ اَللَّهِ<([15]).
الأثر الثالث: سلب البركة
التديّن في المجتمع باعث أساسي على حصول الكثير من البركات والنِّعَم، فما نعيشه اليوم في مجتمعاتنا من استقرار الأسرة، والأمن والأمان، والعلاقات العائلية والمجتمعية القوية، وقلّة الجرائم، وغيرها الكثير، هذه كلّها نِعَمٌ من الله تبارك وتعالى ينبغي شكرها والمحافظة عليها، وما لم نسعَ للحفاظ عليها وترَكنا الفساد يَنخرُ في مجتمعاتنا فإنَّ تلك البركات سوف تُسلب عنّا، ولا يمكن أن نحافظ على تلك البركات ما لم نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر؛ لأنَّها أهمّ وسيلة رقابية في المجتمع تضمن عدم تسلّل الفساد إلينا.
وهذا ما أشار إليه رسول اللهe في قوله: >لا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ نُزِعَتْ مِنْهُمُ الْبَرَكَاتُ، وَسُلِّطَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ نَاصِرٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاء<([16]).
الأثر الرَّابع: تسلّط الظالمين على رقاب المسلمين
من أهمّ أدوار فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو دور الرقابة على عمل السلطة الحاكمة، فكما أنّ هناك دوراً لهذه الفريضة تتمثّل في رقابة الشعب على الشعب، فإنَّ من وظائف الشعب أيضاً أن يقوم بتصحيح عمل المسؤولين في الدولة ليقوموا بأدوارهم على أتمِّ وجه، وإلا فسوف يتسلّط أولئك على رقاب المسلمين، ويعمُّ الظلم والفساد.
وهذا الدور العظيم كان يمارسه الصحابة والتابعون بعد رسول اللهe؛ فكانوا حينما يجدون بعض الملاحظات على الولي المنصوب من قبل الحاكم فإنَّهم يقومون برفع التقارير إلى الحكّام والخلفاء ليبيّنوا لهم انحراف بعض الولاة وعدم صلاحيّتهم لهذا المنصب، وكان الحكّام يضطرُّون للقيام بإجراءات تجاه أولئك الولاة.
فهذه وظيفة تقع على عاتق الشعب تجاه السلطة الحاكمة والمسؤولين في الدولة؛ لأنها تضمن سير الأمور النظاميّة على أكمل وجه، وقد ورد عن أمير المؤمنينg: >وإِنَّ اَلْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ واَلنَّهْيَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ لاَ يُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ، ولاَ يَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ، وأَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ إِمَامٍ جَائِرٍ<([17]).
وعن الإمام الباقرg: > مَنْ مَشَى إِلَى سُلْطَانٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ بِتَقْوَى اَللَّهِ وخَوَّفَهُ ووَعَظَهُ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ اَلثَّقَلَيْنِ مِنَ اَلْجِنِّ واَلْإِنْسِ ومِثْلُ أَعْمَالِهِمْ<([18]).
ومن هنا يقول الإمام الكاظمg: >لَتَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ولَتَنْهُنَّ عَنِ اَلْمُنْكَرِ أَوْ لَيُسْتَعْمَلَنَّ عَلَيْكُمْ شِرَارُكُمْ فَيَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ<([19]).
الأثر الخامس: عدم استجابة الدعاء
الإنسان في حاجة دائمة إلى الدعاء، فالدعاء هو الوسيلة التي بها يتقرّب الإنسان إلى ربّه، ويرجو من خلالها أن تُقضى حوائجه، فإذا انقطعت هذه الصلة، وتعطّلت هذه الوسيلة، فإنَّ مصير الإنسان -حتماً- إلى الضياع والهلاك.
وقد ورد في الروايات العديدة -كالرواية المتقدِّمة في الأثر السابق عن الإمام الكاظمg- أنّ ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لعدم استجابة الدعاء من الإنسان، وهذا أثرٌ خطير جدّاً، فمن موجبات استجابة الدعاء أداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلا فهذه النعمة -المتمثّلة باستجابة الدعاء- سوف تزول عنّا.
يقول الإمام الصادقg: >إِنَّ اللَّهَa بَعَثَ مَلَكَيْنِ إِلَى أَهْلِ مَدِينَةٍ لِيَقْلِبَاهَا عَلَى أَهْلِهَا، فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى الْمَدِينَةِ وَجَدَا رَجُلًا يَدْعُو اللَّهَ ويَتَضَرَّعُ، فَقَالَ أَحَدُ الْمَلَكَيْنِ لِصَاحِبِهِ: أَمَا تَرَى هَذَا الدَّاعِيَ؟! فَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُهُ، وَلَكِنْ أَمْضِي لِمَا أَمَرَ بِهِ رَبِّي، فَقَالَ: لا، وَلَكِنْ لا أُحْدِثُ شَيْئاً حَتَّى أُرَاجِعَ رَبِّي، فَعَادَ إِلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنِّي انْتَهَيْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَوَجَدْتُ عَبْدَكَ فُلَاناً يَدْعُوكَ وَيَتَضَرَّعُ إِلَيْكَ، فَقَالَ: امْضِ بِمَا أَمَرْتُكَ بِهِ، فَإِنَّ ذَا رَجُلٌ لَمْ يَتَمَعَّرْ وَجْهُهُ غَيْظاً لِي قَط<([20]).
الأثر السادس: العذاب الإلهي
ذكر القرآن الكريم لنا مجموعة من النماذج التي تركت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فشملها -في نهاية المطاف- العذاب والعقاب الإلهي، كأصحاب السبت، وقوم عاد وثمود.
لكنَّ البعض قد يتصوَّر أنَّ العذاب لا بدَّ أن يكون عذاباً قاصماً ومُستأصِلاً، كالخسف، والإغراق، والرمي بالحجارة من السماء، وما شابه ذلك، والحال أنّ العذاب الإلهي له أنواع عديدة، منها ما يكون عذاباً مُستأصِلاً ودفعةً واحدة ومنها ما لا يكون كذلك، فقد يكون ما نشاهده اليوم في بعض المجتمعات من التفكّك الأسري، وانتشار الجريمة، وفقدان الأمن والأمان، وغير ذلك، هو من أنواع العذاب المترتّب على ترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والابتعاد عن الدين.
يقول الإمام الصادقg: >مَا أَقَرَّ قَوْمٌ بِالْمُنْكَرِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ لا يُغَيِّرُونَهُ إِلَّا أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِه<([21]).
وورد عن أمير المؤمنينg: >أَيُّهَا النَّاسُ لا تَسْتَوْحِشُوا فِي طَرِيقِ الْهُدَى لِقِلَّةِ أَهْلِهِ، فَإِنَّ النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى مَائِدَةٍ شِبَعُهَا قَصِيرٌ، وَجُوعُهَا طَوِيلٌ، أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا يَجْمَعُ النَّاسَ الرِّضَا وَالسُّخْطُ، وَإِنَّمَا عَقَرَ نَاقَةَ ثَمُودَ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَعَمَّهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ لَمَّا عَمُّوهُ بِالرِّضَا فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِين}<([22]).
الخاتمة
في ختام هذا المبحث نذكر مجموعة من التوصيات المرتبطة بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أولاً: ينبغي علينا أن لا نترك هذه الفريضة خوفاً من ردَّة فعل بعض الناس، أو من انقطاع الرزق، أو توصيفنا بأوصاف من قبيل المتشدّد أو المتعصّب أو ما شابه ذلك، بل لا بدَّ أن نتّبع الحقّ، ولا تأخذنا في الله لومة لائم، فقد ورد في الرواية عن النبيّe: >إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْمُؤْمِنَ الضَّعِيفَ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ، وَقَالَ: هُوَ الَّذِي لَا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَر<([23]).
وعن الإمام الصادقg: >أَيُّهَا النَّاسُ مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَمْ يُقَرِّبَا أَجَلًا وَلَمْ يُبَاعِدَا رِزْقاً<([24]).
بل في الرواية عن الإمام الباقرg أنّ البعض من الناس قد يتّخذ هذه المبرّرات كذريعة لترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعندئذٍ يعمّهم البلاء، يقولg: >يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ يَنْبُعُ فِيهِمْ قَوْمٌ مُرَاؤونَ، يَنْفِرُونَ وَيَنْسُكُونَ، حُدَثَاءَ سُفَهَاءَ، لا يُوجِبُونَ أَمْراً بِمَعْرُوفٍ وَلا نَهْياً عَنْ مُنْكَرٍ إِلَّا إِذَا أَمِنُوا الضَّرَرَ، يَطْلُبُونَ لأَنْفُسِهِمُ الرُّخَصَ وَالْمَعَاذِيرَ<، إِلَى أَنْ قَالَ: >هُنَالِكَ يَتِمُّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَيَعُمُّهُمْ بِعِقَابِه<([25]).
ثانياً: علينا أن نسعى لأن نكون مؤثِّرين في هذا المجال، وأن نفهم أجواء مجتمعاتنا وشبابنا اليوم، وأنْ نعرف كيفية الوصول إليهم، والوسائل المؤثّرة في سبيل تحقيق الآثار المرجوّة، وأنْ نكون قريبين من واقعنا أكثر، وأنْ نستشعر أهمّية هذا الأمر بحيث لا تغمض لنا عينٌ ونحن نرى المفاسد في الأرض، يقول الإمام الصَّادقg: >كَانَ الْمَسِيحُg يَقُولُ: إِنَّ التَّارِكَ شِفَاءَ الْمَجْرُوحِ مِنْ جُرْحِهِ شَرِيكُ جَارِحِهِ لا مَحَالَةَ، إِلَى أَنْ قَالَ: فَكَذَلِكَ لَا تُحَدِّثُوا بِالْحِكْمَةِ غَيْرَ أَهْلِهَا فَتُجَهَّلُوا، وَلا تَمْنَعُوهَا أَهْلَهَا فَتَأْثَمُوا، وَلْيَكُنْ أَحَدُكُمْ بِمَنْزِلَةِ الطَّبِيبِ الْمُدَاوِي إِنْ رَأَى مَوْضِعاً لِدَوَائِهِ وَإِلَّا أَمْسَك<([26]).
ثالثاً: علينا أنْ نُتقِن فقهَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشكل جيِّد؛ حتى لا نرتكب بعض المحرّمات والمحاذير الشرعيّة بحجَّة أداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنَّ الغاية لا تبرِّر الوسيلة.
والحمد لله ربّ العالمين.
([1]) الكافي، الكلينيّ، ج5، ص56.
([2]) التوبة: 71.
([3]) لاحظ: الدين العلماني، عبد الكريم سروش، ص73- 93، ص117.
([4]) الفريضة العظمى، الشيخ محمَّد تقي مصباح اليزدي، ص206.
([5]) المصدر نفسه.
([6]) لاحظ مثلاً: دفاع عن الشريعة، السيد صدر الدين القبّانجي، ص67- 82.
([7]) اقتصادنا، السيد محمد باقر الصدر، ص689.
([8]) لاحظ: دفاع عن الشريعة، السيد صدر الدين القبّانجي، ص236.
([9]) الفريضة العظمى، الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي، ص206.
([10]) الفريضة العظمى، الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي، ص206.
([11]) مجلة رسالة القلم، العدد 66، ص29.
([12]) دراسات في الأخلاق وشؤون الحكمة العملية، الشيخ حسين المظاهري، ج1، ص37.
([13]) غرر الحكم، الآمدي، ص504.
([14]) الكافي، الكليني، ج5، ص56.
([15]) وسائل الشيعة، ج16، ص136.
([16]) وسائل الشيعة،ج16، ص123.
([17]) نهج البلاغة (للصبحي صالح)، ص542.
([18]) وسائل الشيعة، ج16، ص134.
([19]) الكافي، الكليني، ج5، ص56.
([20]) الكافي، الكليني، ج5، ص58.
([21]) وسائل الشيعة، ج16، ص137.
([22]) نهج البلاغة (للصبحي صالح)، ص319.
([23]) وسائل الشيعة، ج16، ص125.
([24]) المصدر نفسه.
([25]) المصدر نفسه، ص129.
([26]) وسائل الشيعة، ج16، ص128.

0 التعليق
ارسال التعليق