الملخَّص:
تعرَّض الكاتبُ إلى وظيفةِ المأمورِ بالمعروف والمنهيّ عن المنكر الذي يفعله، في نقاط أربع؛ فبعد بيان عمومية هذه الفريضة وعدم استثناء نفس الشخص المرتكِب للمنكر، ذكر الغايات لهذه الفريضة من كونها أساساً لبقية الفرائض، وما فيها من المصلحة العامة غير الخاصة بالآمر والناهي، وفي النقطة الثالثة بيّن وظيفة المأمور وموقفه في خمسة أمور، وختم في النقطة الرابعة بما ورد من الروايات في باب النصيحة.
المقدِّمة
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم، اللهمَّ صلِّ على محمَّد وآلِ محمَّد..
قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}(آل عمران:110).
لا يخفى على مطِّلعٍ على روايات أهلِ البيتi مدى أهميَّة فريضة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، لما لها من آثار عظيمة جداً على المجتمع، وعلى الفرد المؤمن، وقد طُرِحت هذه الفريضة بشكلٍ متكرِّر؛ لكونِها دائميَّة الابتلاء، وما كان دائمَ الابتلاء فينبغي أن يكون دائمَ الطَّرح والتَّكرار، وقد ذُكِرتْ شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومتى يجب ومتى لا يجب، وما هي شرائطه، ومراتبه.. وقد جُوبِهَت هذه الفريضة وحُورِبَت أشدَّ الحرب من قِبَلِ كلِّ متضرِّرٍ منها، غير مخلص لدينه، فضلاً عن أعداء الدين، وممَّا أخبر عنه النبيe حول هذه الفريضة المضيَّعة ما هو مشهور عنهe ورواه الكليني في الكافي عن أبي عبد اللهg قال: قال النَّبيe: >كيف بكم إذا فسدتْ نساؤُكم، وفسق شبابُكم، ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟!<، فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟ فقال: «نعم، وشرٌّ من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟!<، فقيل له: يا رسول الله ويكون ذلك؟ قال: >نعم، وشرٌّ من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر معروفاً<([1]).
وهذه الرِّواية تدلُّ على أنَّ هذه الفريضة كانت في ذلك الوقت معظَّمة ومقدَّسة، لا يتصوَّر أحدٌ أنَّ تُترَك فضلاً عن أن تنقلب إلى الضدِّ، بل يتحوَّل الحقُّ إلى باطل، والباطل إلى حقّ، فلم يتعجبّوا من فساد النساء وفسق الشباب، بل تعجَّبوا من ترك فريضة الأمر والنهي.
ولكن هناك قضيَّةً ترتبط بهذه الفريضة، قلَّما يُتعرَّض إليها، أو تُبيَّن بشكلٍ واضح، وهي أنَّ الطَّرف المقابل وهو المأمور بالمعروف والمنهي عن منكره، ما هي وظيفته الشرعيَّة في هذه المسألة؟ أليس هو ضمن المؤمنين المكلَّفين؟! خصوصاً إذا التفتنا أنَّ أكثرنا معرَّض في حياتِه لِئَنْ يكون في الطَّرف المقابل، فالمعروف بابه واسع يشمل المستحبات، والنَّهي إذا قلنا بشموله للمكروهات (كما يذكر زين الدينN([2]))، أو الآداب فإنَّه سيشمل موارد كثيرة حينئذٍ، بل حتى خصوص المنكرات والمعاصي، فإنَّها كثيرة نمارسها في حياتنا، فهناك غيبة، نميمة، نظرة محرَّمة، تبرُّج، عقوق، قطيعة رحم، ظلم للزَّوجة أو الزَّوج أو الأولاد، ...الخ، وكلُّنا مبتلىً ببعض هذه الأشياء. فالحديث حول هذا الجانب مهمُّ جداً، ونذكره ضمن نقاط:
النُّقطة الأولى: عموميَّة هذه الوظيفة
هذه الفريضة عامَّة لكلِّ المؤمنين كبقيةِ الفرائض وإن كانت على نحو الوجوب الكفائي، فكلُّ مكلَّفٍ معنيٌّ بهذه الفريضة، فمن غير الصحيح أنْ يُلقَى اللوم في تركِها على فئة معيَّنة من النَّاس عُرِفوا بالتديُّن، وبالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، كما لا يصحُّ أن يكون هناك أطراف محايدة لا يهمُّها الأمر، ثمَّ إنَّ التَّارك للمعروف والفاعل للمنكر نفسه مخاطب بهذا الخطاب، ويشمل حتى ما يصنعه هو؛ يقول الشيخ زين الدينN: "يجب على المؤمن -وخصوصاً إذا كان من أهل العلم والدين، والمتصدِّين لنصيحة النَّاس وإرشادهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر- أن يأمرَ نفسَه بالمعروف الواجب، وأن ينهى نفسَه عن المنكر المحرَّم، الصغير منه والكبير، وأن يكون من أشدِّ الناس التزاماً بذلك، وأثبتهم على إطاعته وتطبيقه على نفسِه، وقد ورد في وصيَّة الإمام أمير المؤمنينg لولده محمَّد بن الحنفية: >كن آخذ النَّاس بما تأمر به، وأكفّ النَّاس عمَّا تنهى عنه، وأْمُرْ بالمعروف تكنْ من أهله<([3]). ويستحب له أن يأمر نفسَه بالمعروف المندوب، وأن يكون من المواظبين عليه، وأن ينهى نفسَه عن المكروهات ويكون من التاركين لها"([4]).
فهنا ثلاثة أطراف:
- 1. الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر.
- 2. المأمور بالمعروف والمنهيّ عن المنكر.
- 3. الناس الآخرون أو -إذا صحَّ التعبير- المحايدون. وهؤلاء تشملهم فريضة الأمر والنهي أيضاً، ولكن الكلام حول الطَّرف الثَّاني.
النُّقطة الثَّانية: الغاية من فريضة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر
حتى تترسَّخ الفكرة التي نريد التعرُّض إليها وتكون محلَّ قبولٍ وعدم استيحاش، لا بأس أن نذكر الغاية من هذه الفريضة والأثر المترتِّب عليها بصورة موجزة:
1. إنَّ هذه الفريضة بها تقام بقيَّة الفرائض:
من الرِّوايات الجامعة لغايات هذه الفريضة، والتي ركَّزت على أنَّ هذه الفريضة بها تقام بقيَّة الفرائض ما رواه الكليني في الكافي عن جابر، عن أبي جعفر الباقرg قال : >يكون في آخر الزَّمان قومٌ يتّبع فيهم قوم مراؤون، يتقرؤون ويتنسكون، حدثاء سفهاء لا يوجبون أمراً بمعروف ولا نهياً عن منكر إلا إذا أمنوا الضَّرر، يطلبون لأنفسهم الرُّخص و المعاذير، يتبعون زلَّات العلماء وفساد عملهم، يقبلون على الصلاة والصيام وما لا يَكلمهم([5]) في نفس ولا مال، ولو أضرَّت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها، إنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، هنالك يتمُّ غضب اللهa عليهم فيعمُّهم بعقابه، فيهلك الأبرار في دار الفجَّار، والصغار في دار الكبار ، إنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء، ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحلُّ المكاسب وتردُّ المظالم وتعمر الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر، فأنكروا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم، وصكوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم..<([6]).
فإحدى أهمّ غايات هذه الفريضة الحفاظ على بقيَّة الفرائض بصورة علنيَّة، وعدم تجاسر أحد على هتكها؛ بحيث لا يستطيع العاصي أن يمارسَ معصيتَه دون تحسُّس من الناس وترقُّب النَّهي منهم.
فلو أصبح في بلد ما -مثلاً- أنَّه لا يُنكَر على أحدٍ ترك صلاتِه، أو ترك واجباته الزَّوجية، أو لم يُنكَر على أحدٍ أن يستمع الغناء بصورة علنيَّة، أو يمارس المحرَّم علنا، ...الخ، فما الذي سوف يحصل؟ النتيجة الطبيعية هو أنَّه سوف يتجرَّأ الفاسق، ويضعف الدين في نفوس الكثير تأثُّراً بالجوِّ العام، ولهذا فإنَّ هذه الفريضة تمثِّل رادعاً اجتماعياً مهمّاً، أو ما نسمِّيه في بعض أعرافنا عيباً، وغير مناسب، ويتعامل الجميع معه على هذا الأساس الذي يمنع من تجرّؤ الآخرين على فعله.
2. إنَّ في هذه الفريضة مصلحة عامَّة:
كما ورد في خطبة الزَّهراءj: >والأمر بالمعروف مصلحة للعامَّة<([7])، وأضاف في دلائل الإمامة: >والنَّهي عن المنكر تنزيهاً للدِّين<([8]).
لأنَّ المنكرات التي يتأكَّد النَّهي عنها هي المنكرات الظَّاهرة أو المؤثِّرة في الشَّأن العام، يقول في هذا الشَّأن الشيخ زين الدينN في كلمة التقوى: "والفارق الكبير بين هذه الذُّنوب وغيرها: إنَّ هذه الذنوب جرائم اجتماعية عامَّة توجبُ فساد المجتمع من أصله، وفساد قيمه وركائزه، وانحلال أصوله العامَّة المشتركة، ولذلك فلا تختصُّ آثارها وسوؤها بفردٍ خاصٍّ من أفراده، ويكون المقت والعقاب عليها عامَّا للعامل وغير العامل إذا هو أغضى وتسامح في الأمر، أو سكت عن الإنكار، بل وللكبير والصغير، والذُّنوب الأخرى إنَّما هي مخالفات شخصيَّة فتختصُّ آثارها وعقابها بالعامل نفسه ولا تعمُّ غيرَه من الناس.. وفي الحديث: >كان يقال: لا يحل لعين مؤمنة ترى الله يعصى فتطرف حتى تغيره<([9])"([10]).
ويقول أيضاً في مسألة فضحِ المتجاهر بالفسق إذا أصرَّ على المحرَّم أو أصرَّ على ترك الواجب (رغم حرمة المؤمن): "جاز إعلانُ أمرِه إذا كان متجاهراً بارتكابه في ما يقول وما يفعل، ولا يبالي بكشف سترِه، وجاز إعلانُ أمرِه على الأقوى إذا كان تأثير الأمر والنَّهي في إصلاحه يتوقَّف على تبيين حاله والتشهير به، فإذا كفَّ عن فعله وارتدع عن منكره وعن إصراره عليه، وجب ترك ذلك، بل وجب إكباره وإجلاله لسيطرته على نفسه، وإحلاله الموضع اللائق به من المجتمع المسلم السليم"([11]).
فالغرض ليس الفضيحة والتشفّي والانتقام أو تتبُّع عورات المؤمنين، بل لا يجوز ذلك، وإنَّما الغايةُ هي إصلاح المجتمع، والامتثال إلى أمرِ اللهِ تعالى بأداء هذه الفريضة، فإذا امتثل الإنسان إلى ذلك وأصبح صالحاً فهو واحد من جماعة المؤمنين المحترمين، بل له ميزة التوبة الصادقة.
النُّقطة الثَّالثة: موقف المأمور والمنهيّ ووظيفته
نأتي إلى محور البحث والحديث، وهي وظيفة من يُؤمَر بمعروف قد تركَه، أو يُنهَى عن محرم قد فعله، فإننا ذكرنا أنَّه يتحمَّل مسؤوليةً ووظيفة شرعية وأخلاقية تجاه من يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، ويمكن تلخيص أهمِّ وظائفه في التالي:
1. النَّظر إلى الآمر والناهي بأنَّه يسدي له خدمة:
أوَّل ما ينبغي أن يلاحظه هو أنَّ الطرف الآمر أو النَّاهي ليس عدواً، ولا مترصِّداً، بل إنَّه يسدي إليه خدمة كبيرة جداً؛ لأنَّه يكشف له خطأً أو عيباً أو ذنباً لأجل أن يصحِّحه، فهو عاملٌ من عوامل نجاحه، وتقدُّمه في الحياة، وقربه من الله تعالى، ولا خدمة أعظم من إرشاد الجاهل ومنع انحرافه عن الصِّراط، وهذا يدخل في ما أمر الله تعالى به من التواصي بالحقِّ والتواصي بالصَّبر.
ويعتبر الإمام الصادقg أنَّ بيان العيب لإصلاحه إنَّما هو هديَّة عظيمة تستوجب المحبَّة، يقولg: >أحبُّ إخواني إليَّ من أهدى إليَّ عيوبي<([12]).
ويقول المازندراني في شرحه لهذا الحديث: "وذلك لأنَّ الإنسان يحبُّ نفسَه فلا يرى عيوبَه، فإذا أظهرها له صديقُه بمقتضى الصداقة والنصيحة تركها طلباً لكمالِه، وذلك من أجلِ منافع الصداقة وعظمها، وفيه حثٌّ للصديقين على إظهار كلِّ منهما عيبَ صاحبِه وعلى عدِّ ذلك الإظهار عطيَّة وهديَّة لا منقصة موجبة للتَّفارق والعدوان كما هو شأنُ أكثرِ أبناءِ الزَّمان"([13]).
وهذا كلُّه إذا كان الآمرُ والنَّاهي مصيباً في نصيحته، والأمرُ كذلك فيما لو تبيَّن أنَّه مخطئ، فينبغي أيضاً أن يشكر من ناحية نيته في الإصلاح، وهو ما يشير إليه الإمام زين العابدينg في رسالة الحقوق: >أمَّا حقُّ النَّاصح فأنْ تلينَ له جناحَك، ثمَّ تشرئب له قلبك، وتفتح له سمعك حتى تفهم عنه نصيحتَه، ثمَّ تنظرُ فيها، فإنْ كان وُفِّق فيها للصواب حمدتَ اللهَ على ذلك، وقبلت منه، وعرفت له نصيحتَه، وإنْ لم يكن وُفِّق لها فيها رحمتَه، ولم تتهمه، وعلمت أنَّه لم يألك نصحاً إلا أنَّه أخطأ، إلا أن يكون عندك مستحِّقاً للتُّهمة، فلا تعبأ بشيء من أمرِه على كلِّ حال، ولا قوَّة إلا بالله<([14]).
2. إنَّه يمنع من نزول العقاب الجماعي:
وهذا من توابع الأمر الأوَّل، فإنَّ ترك هذه الفريضة الواجبة توجب العقاب الجماعي، فحينما يصدر من أحدٍ منكر أو ترك لمعروف فإنَّ تركه دون زجر من الآخرين يؤدِّي إلى نزول العقاب الجماعي، ففي الرِّواية عن الإمام الرِّضاg: >كان رسول اللهe يقول: إذا أمتي تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فليأذنوا بوقاع من الله<([15])، وعن الباقرg في حديث: >هنالك يتمُّ غضبُ الله! عليهم، فيعمُّهم بعقابه، فيهلك الأبرار في دار الأشرار، والصغار في دار الكبار<([16]).
فقيام أحد المؤمنين بدوره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما يدفع بذلك عن المأمور والمنهيّ وعن نفسه وعن المجتمع نزول العذاب.
وعن النبيe أنَّه قال: >لا يزال النَّاس بخيرٍ ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البرِّ والتقوى، فإذا لم يفعلوا ذلك نُزِعتْ منهم البركات، وسلّط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء<([17]).
3ـ الإعانة على المعروف
الآمر بالمعروف يؤدِّي وظيفة إلهيَّة، وفريضة من الفرائض، فهو مطيع لله بذلك، وهو معينٌ لكَ على طاعة الله تعالى أيضاً، وهو خير لك إنْ كنتَ عاقلاً، ثمَّ إنْ تركَه لهذه الفريضة سوف يؤدِّي إلى عقابه وعقابك -كما تقدَّم-، وفي الرِّواية عن الصادقg أنَّه قال لقوم من أصحابه: >إنّه قد حقَّ لي أن آخذ البريء منكم بالسقيم، وكيف لا يحقُّ لي ذلك؟! وأنتم يبلغكم عن الرَّجل منكم القبيحَ ولا تنكرون عليه، ولا تهجرونه، ولا تؤذُّونه حتى يتركَه<([18]).
وإلى ذلك يشير الشيخ زين الدينN في كلمة التقوى بقوله: "إذا اجتمعت للرُّجل شروط الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ووجب عليه ذلك وجبتْ عليه المبادرة للامتثال ولم يجزْ له التَّأخير، وإذا أخَّر ذلك لعذرٍ أو لغير عذر لم يسقط عنه الوجوب، وأَثِم إذا كان غير معذور في تأخيرِه، ووجبت عليه المبادرة، وهكذا فكلَّما تأخَّر وجب عليه الفور، ويتكرَّر عليه الإثمُ إذا كان لغير عذر"([19]).
وروى الطوسي في الأمالي عن الحسين بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده، قال: كان يقال: >لا يحلُّ لعين مؤمنة ترى الله يُعصَى فتطرف حتى تغيِّره<([20]).
وإعانة المؤمن على أداء الوظيفة الشرعية واجبة على القادر، ولا يمنع ذلك كون أداء هذا المؤمن لوظيفته متعلِّقة بفعل المحرَّم، فكما ينبغي إعانة المؤمن لو أراد أمر شخصٍ آخر بالمعروف أو نهيه عن المنكر وتشجيعه والوقوف معه، فكذلك الأمر تماماً حينما يكون الأمرُ معي، وهذا الأمرُ يحتاج إلى إيمانٍ راسخٍ، وصدقٍ وإنصافٍ مع النَّفس.
وعن إمامنا الباقرg: >بئسَ القومُ قومٌ يعيبون الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر<([21]).
ولهذا كما لا يصحُّ أن أمنعَ أحداً يقومُ بواجبِه الشَّرعي من هذه الفريضة، فإنَّه لا يصحُّ أنْ أمنعَ أحداً حينما يأمرني بالمعروف أو ينهاني عن المنكر، بل الوظيفة الشرعية -كما قلنا- هو إعانتُه على أداء الفريضة.
4. تقبّل الأسلوب اللاذع والخشن:
ممَّا يترتَّب على ما سبق من وجوب قبول الأمر والنهي بل الإعانة على ذلك، هو التقبّل لذلك حتى لو كان أسلوب الآمر والناهي خاطئاً، وطريقته منفِّرة؛ فإنَّ ذلك لا يبرِّر لي رفض نصيحته، فصحيح أنَّ الشارع المقدَّس أمر باللين واللطف والمجادلة بالتي هي أحسن، ومخالفة الأمر اللين خطأ، وقد يترتَّب عليه مسؤولية شرعية إذا أدَّى إلى تنفير الآخرين، ولكن ذلك لا يمثِّل لي عذراً عند الله تعالى في مخالفة النصيحة.
بل عليَّ محاولة أن أبرِّر للآمرِ غضبَه وأسلوبَه الخشن، فقد يكون في حالة انفعالٍ وغضبٍ لله فلم يتمالك نفسَه، فهو في طاعةٍ وإن أخطأ طريقها، يقول الشيخ زين الدينN: "المسألة 61: يجب على المسلم أن يغضب لله سبحانه إذا رأى واجباته تترك، أو رأى محرماته ترتكب، أو رأى شريعته تُغيَّر أو أحكامه تُعطَّل، فإذا غضب لله أمر ونهى وزجر بما يستطيع من مراتب الإنكار التي تقدم بيانها في مسائل الفصل الأول، وأن يكون غضبه لله بمقدار ما غضب الله لنفسه"([22]).
أو يكون الموقف يقتضي الخشونة، أو عظم الذنب المرتكب يقتضي ذلك، روى الكليني عن محمَّد بن عذافر، عن أبيه قال : قال لي أبو عبد اللهg: >يا عذافر، إنَّك تعامل أبا أيوب والربيع، فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة؟< قال(محمَّد): فوجم أبي، فقال له أبو عبد اللهg لمَّا رأى ما أصابه: >أي عذافر، إنَّما خوفتك بما خوَّفني اللهُ! به<، قال محمَّد: فقدم أبي، فلم يزل مغموماً مكروباً حتى مات"([23]).
وليعلم المؤمن أنَّ ذنبه أكبرُ فظاعةً وخطأً من الأسلوب الخشن للآمر والنَّاهي.
5. النَّظر في العاقبة:
على من يُؤمَر بالمعروف أو يُنهَى عن المنكر أن يتمعَّن في العاقبة الحسنة لامتثاله للأمر وانتهائه عن المنكر، وهذه العاقبة الحسنة عليه وعلى المجتمع؛ فإنَّ ذلك مدعاة لرفعته عند الله تعالى وعند الناس؛ لأنَّ الفطرة الإنسانية تعظِّم من يضغط على نفسه ويتواضع لقبول الحقِّ، ويعترف بخطئه لتصحيحه، فإنَّ التمعّن في ذلك سوف يليِّن قلبَه لقبول الحقِّ، وفي الرواية عن الرسولe في وصيته لأبي ذر: >يطلع قوم من أهل الجنة إلى قوم من أهل النَّار، فيقولون: ما أدخلكم النَّار وإنَّما دخلنا الجنَّة بفضل تعليمكم وتأديبكم؟ فيقولون: إنَّا كنَّا نأمركم بالخير ولا نفعله<([24])، فهنا لكون المأمور صاحب عقل راجح وقد قبل الموعظة والنُّصح فكان مصيرُه إلى الجنَّة، حتى لو كان الآمر والناصح من أهل النار لعدم عمله بما يقول، وهذه الرواية تؤكِّد ما ذكرناه من لزوم قبول النصيحة حتى مع الأسلوب الخشن؛ لأنَّ المعيارَ هو أنَّ الكلام حقٌ أم لا، بغضِّ النَّظر عن الأسلوب.
النُّقطة الرَّابعة: النصيحة
لا بأس بأن نذكر بعض الروايات المتعلِّقة بالنصيحة، باعتبار أنَّ الكلام حول قبول الأمر والنهي، وهما نوع من أنواع النصائح، مع النظر إلى كون النَّفوس من طبيعتها أنَّها لا تقبل النُّصح؛ لأنَّ النصيحة هي بيان للخطأ والذنب أو التقصير في أمرٍ ما، بالإضافة إلى دلالة النصيحة ذاتاً على كون المنصوح أصغر شأناً ومرتبة من الناصح، فيشعر المنصوح بالاستصغار، وربما تأخذه العزَّة بالإثم، ولهذا بيَّنت الروايات أهميَّة النصيحة وأهميَّة قبولها، وأنَّ للناصح حقوقاً، والتمعّن في هذه النصوص الشريفة يرفع الاستيحاش والاستثقال من قبول النَّصيحة، فعن الأميرg: >مرارةُ النُّصح أنفعُ من حلاوة الغِش<([25]).
1. منزلة الناصح:
ورد عن النبي الأعظم e: >إنَّ أعظم الناس منزلةً عند الله يوم القيامة أمشاهم في أرضه بالنَّصيحة لخلقه<([26])، وعن أبي عبد اللهg: >عليكم بالنُّصح لله في خلقه، فلن تلقاه بعمل أفضل منه<([27]).
2. دلالة النصيحة:
النصيحة هديةُ محبٍّ ودليل المودة، وليست تتبُّعاً لعورات النَّاس كما قد نتصوَّر:
فعن عليg: >ما أخلص المودَّةَ من لم ينصح<([28])، فالنَّصيحة علامة المودَّة الخالصة، و>أشفقُ النَّاس عليكَ أعونهم لكَ على صلاحِ نفسِك، وأنصحهم لكَ في دينك<([29]).
بل النصيحة حقٌّ للمؤمن على أخيه، فعن الصادقg: >المؤمن أخو المؤمن يحقُّ عليه نصيحته..<([30])، بل عن عليg أنَّ: >المؤمن غريزته النُّصح<([31])، بل >النَّصيحة من أخلاق الكرام<([32]). فمن رآك على خطأ أو تقصير فلم ينبّهك، أو يرشدك فهو غير محبٍّ لك، ويكون تاركاً لحقٍّ من حقوقِ الأخوَّة، وعليك أن تختار من الإخوة من يكثر النصيحة، فإنَّ >خير إخوانك أنصحهم<([33]) كما عن الأميرg، و>من نصحك فقد أنجدك<([34])، وقالg: >ما آلى جهداً في النصيحة من دلَّك على عيبك وحفظ غيبك<([35]).
ومن لا يعتني بالنَّصيحة فإنَّ ذلك دليل إهمال نفسه، وعدم الاعتناء بسمعته.
الخاتمة
ونختم الكلام بالنقاط التالية:
1. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشكّل ضمانة اجتماعية عن الانغماس في الفساد والضلال، والمنع من الجرأة على ارتكاب المنكرات، وتركُ هذه الفريضة يكسر الحاجز النفسي والاجتماعي، مما يتيح للعصاة التوغّل في المعصية وإفساد المجتمع.
2. أداء هذه الفريضة المقدّسة من مسؤولية الجميع دون استثناء، بما فيهم الفاعل للمنكر والتارك للمعروف، فعليه أن يتقبَّل الأمر والنهي، ولا يعترض على أداء هذه الفريضة وإن طُبِّقَت عليه.
3. إنَّ أداء هذه الفريضة لا تتعارض مع الحرية، ولا تشكِّل نوعاً من الإجبار المذموم، لأنَّها امتثالٌ لأمرِ اللهِ تعالى المالك للإنسان، بل تركها هو المذموم، والاعتراض عليها هو اعتراضٌ على أمرِ اللهِ تعالى، وتمرُّدٌ على تشريعاته.
نسأل الله تعالى أن يأخذ بأيدينا لسلوك طريق الحق، وقبوله، والثبات عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله على محمَّد وآلِه الطَّاهرين.
([1]) الكافي، الكليني، ج5، ص59.
([2]) يقول في كلمة التَّقوى(ج2، ص322) المسألة43: "ويستحب النَّهي عن المنكر الذي ثبتت كراهة فعله في الشريعة على النهج الذي بيناه في الأمر بالمندوب من غير فرق بينهما ، فلا إثم ولا عقوبة على المكلَّف إذا تركهما".
([3]) من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج4، ص387.
([4]) كلمة التقوى، الشيخ زين الدين، (باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، المسألة:36، ج2، ص318.
([5]) الكلم: الجرح، أي ما لا يضرهم
([6]) الكافي، الكليني، ج5، ص56.
([7]) من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج3، ص568.
([8]) دلائل الإمامة، ابن جرير الطبري الشيعي، ص113.
([9]) أمالي الشيخ الطوسي، ص55.
([10]) كلمة التقوى، الشيخ زين الدين، ج2، ص305.
([11]) كلمة التقوى، الشيخ زين الدين، ج2، ص315.
([12]) الكافي، الكُليني، ج2، ص639.
([13]) شرح أصول الكافي، المولى المازندراني، ج11، ص96.
([14]) تحف العقول عن آل الرسولe، ابن شعبة الحراني، ص269.
([15]) الكافي، الكليني، ج5، ص59.
([16]) الكافي، الكليني، ج5، ص56.
([17]) التهذيب، الطوسي، ج6، ص181.
([18]) التهذيب، الطوسي، (ج6، ص181-182).
([19]) كلمة التقوى، الشيخ محمد أمين زين الدين،(مسألة14)، ج2، ص309.
([20]) الأمالي، الطوسي، ص55.
([21]) الكافي، الكليني، ج5، ص57.
([22]) كلمة التقوى، الشيخ زين الدين، ج2، ص328.
([23]) الكافي، الكليني، ج5، ص105.
([24]) الأمالي، الطُّوسي، ص527.
([25]) عيون الحكم والمواعظ، الواسطي، ص489.
([26]) الكافي، الكُليني، ج2، ص208.
([27]) الكافي، الكُليني، ج2، ص208.
([28]) عيون الحكم والمواعظ، الواسطي، ص476.
([29]) ميزان الحكمة، الري شهري، ج4، ص3281، نقلاً عن غرر الحكم للآمدي.
([30]) المؤمن، حسين بن سعيد الكوفي، ص42.
([31]) عيون الحكم والمواعظ، الواسطي، ص47.
([32]) عيون الحكم والمواعظ، الواسطي، ص18.
([33]) مستدرك الوسائل، المحدِّث النوري، ج12، ص430، نقلا عن غرر الحكم للآمدي.
([34]) مستدرك الوسائل، المحدِّث النوري، ج12، ص430، نقلا عن غرر الحكم للآمدي.
([35]) مستدرك الوسائل، المحدِّث النوري، ج12، ص430، نقلا عن غرر الحكم للآمدي.

0 التعليق
ارسال التعليق