أيمكنُ ألَّا يكونَ المؤمنُ مجاهداً؟

أيمكنُ ألَّا يكونَ المؤمنُ مجاهداً؟

أيمكنُ ألَّا يكونَ المؤمنُ مجاهداً؟

 

بسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، اللهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وآلِ محمَّدٍ..

كلمةُ "الجِهاد" -كغيرها من المفاهيم المهمَّة- وقَعَ عليها كثيرٌ من التَّحريف والتَّبديل والتشويش وقلب المفاهيم، فقد تُنفَى ممَّن يستحقها، وقد تلصقُ بمن هو فاقد لأدنى مقوَّامتها، وما ذلك إلا لكونها غير مفهومة عند الكثير من النَّاس..

"الجِهادُ" مصطلحٌ قرآني وروائي، وضعت له محدَّدات ومقوِّمات، ويحمل هذا المصطلح معانٍ مباركةٍ مقدَّسةٍ تقع ضمن المنظومة الإسلامية المتكاملة.. ففقد هذا المفهوم وإزالته من حياة المؤمنين أو تغييره وتفسيره بغير ما أراده اللهُ له يؤدِّي إلى نقصٍ في هذه المنظومة، وبالتَّالي حصولُ الخَلل في التديُّن والإيمان..

المسيرة النبوية في الجهاد

فالجهاد.. بدأ منذُ اليومِ الأوَّل لبعثة النَّبيe حينما تلقَّى الوحيَ وكانت المهمَّةُ ثقيلةً {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}(المزمِّل:5)، فكان يحتاج إلى جهادٍ في حمل هذه الرِّسالة.. فأرشده الله سبحانه {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا}(المزمل:2-4)، فحمل الرِّسالة جهادٌ يحتاج إلى جهاد آخر وهو قيام الليل وقراءة القرآن..

واستمرَّ جهادُهe حينما أُمِرَ بالصَّدع بالدَّعوة.. لمواجهة الشِّرك بصورة علنية مباشرة مع كبار القوم.. وكانت من الأمور الصَّعبة.. فتلقَّى الاستهزاء، والأذيَّة، والتَّكذيب، والشَّتم، والحرب، حتى أخرجوهُ من حرمِ اللهِ سبحانَه.. أفكانَ ذلكَ لا يحتاجُ إلى جهادٍ ومواجهةٍ؟!!

ثمَّ.. كوَّن الدولة الإسلامية في المدينة التي نُوِّرَت بقدومِهe، فكانت المواجهات العسكرية التي استمرَّت منذُ بدء إنشاء الدَّولة وحتى رحيله وهو يدعو الأقوام، ويراسل الملوك، ويواجه المشركين، ويحذِّر من المنافقين، فحمل السَّيف وشارك في المعارك حتى كُسِرت رباعيَّته.. حتى ارتحل كريماً إلى ربِّه، شهيداً وشاهداً على ما فعلتُه الأمَّة بهe، {وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}(الحج:78)، أفكان يتمكَّنK ممَّا أداه بدون الجهاد؟!

مسيرة المعصومينi في الجهاد

وبدأ بعدَه وصيُّه عليُّg مسيرةَ الجهاد -بعدما أبلى بلاءً حسناً في حياة النَّبيe وتكسَّرت الأصنامُ بسيفِه- فصبَرَ على غصبِ الخلافة >فصبرتُ وفي العينِ قذَى، وفي الحلْقِ شجا، أرى تراثيَ نهباً<([1]) بعدما أقام الحُجَّة على القوم، وتصبَّر وتجلَّد لما جرى على بضعة النَّبيe، وتجرَّع الغُصَص، ثمَّ لمَّا جاءته الخلافة راغمةً حمل السَّيف على عاتقه ليواجه طيش النَّاكثين والقاسطين والمارقين، وقد ابتلي بمن معه حتى قال مخاطباً: >لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظا، وجرعتموني نغب التهمام أنفاساً، وأفسدتم عليَّ رأيي بالعصيان والخذلان<([2])، أفكان ذلك يتمُّ لولا عنصر الجهاد والاستعداد للشهادة؟!

وبعد أن أدَّى عليٌّe ما عليه من رسالة وأمانة ختم الله تعالى له بالشهادة في محراب الصلاة، وسبقته في ذلك الصديقة الكُبْرىj.

ثمَّ حمَلَ الرَّايةَ بعدَه ابنُه المجتبىg، ليكملَ المسيرة الجهادية في مواجهة الضَّلال والانحراف، فحاربَ وقاتلَ وتحمَّل، ولمَّا غلبَ الغيُّ على عامَّة النَّاس فرضوا بالقليلِ من الدُّنيا وتركوا "الجِهاد" ابتلاهم اللهُ بمعاوية وخسروا نعمة الإمامة والعصمة، فبقيَ الإمامُ المجتبى يواصل جهاده ولكن خارج ساحة المعركة العسكرية.

ثمَّ جاء السبط الثاني أبو الشهداءg ليختم حياته بمواجهة الباطل والكفر والجحود بعد أن لم يكن طريق آخر إلا طريق الشهادة والتضحية..

وهكذا بقية الأئمةi، ابتلي الواحد منهم بعد الآخر، بالسجن والإشخاص والملاحقة والإهانة.. أفكان ذلك يحصل لولا أنَّهم كانوا في مواجهةٍ مع الظَّالمين مجاهدين مدافعين عن دينِ اللهِ سُبحانه؟! وهكذا مسيرة العلماء والفقهاء طول التاريخ.

إلى أن يظهر صاحبُ الأمرl فينشر العدل في الأرض عن طريق جهاد مردة الجن والإنس، ومواجهة المنحرفين عن خطِّ السَّماء..

أصالة مفردة الجهاد وأنواعه

كلُّ ما مرَّ يشيرُ إلى أنَّ "مفردة الجهاد" ليست من الأمور الكمالية في شخصيَّة المؤمن، بل هي محورٌ أساسٌ في حياتِه الإيمانية مهما اختلفت الظُّروف.. يقول تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}(الحجرات:15).

وما يتغيَّر ليس الجهاد بما هو جهاد، وإنَّما تتغيَّر الطِّريقة في تفعيل هذا الجهاد ومواجهة الباطل..

فقد يتحتَّم على المؤمن حمل السِّلاح للمواجهة العسكريَّة.. 

وقد يحتاج إلى المواجهة بالكلمة والموقف..

وقد يواجه بالامتناع عن الدُّخول مع الظَّالم في مشَاريعِه الشَّيطانية.. وهذا ليس بأقل كلفة من غيره، فقد يكون الظَّالمُ شرساً ومصراً على إخضاعِ المؤُمن، فالثَّباتُ على الموقف، ورفض الخُنوع والخُضوع قد يكون أكثرُ كلفةً في بعض الأحيان..

قد يواجه المؤمنُ مضايقاتٍ جمَّة ومكلفة حينما يصرُّ على تأدية وظيفته الشَّرعية من تعليم النَّاس، وتربيتهم، والمشاركة في البرامج الإيمانية، والمؤسسات الاجتماعية.. هذا كله يحتاج إلى جهاد.. يقول سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(التوبة:16). ويقول تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}(النحل:110).

التقية ليست مبرراً لترك المسؤولية

ولا يصحُّ أبداً أن يتمسَّك المؤمنُ بمسألة التِّقية أو خوف الفتنة لأجل التَّخلِّي عن الوظيفة الإلهية الملقاة على عاتقه فيبقى حبيس الدار أو بعيداً عن هموم أمته والنَّاس.. فالأئمةi الذين عاشوا أقسى ظروف التِّقية سُجنوا وشُرِّدوا وقُتلِوا لأنَّهمi أصرُّوا على حملِ الرِّسالة رُغم عُظم المِحنَة..

ولا أريد هنا أنْ أشخِّص للنَّاس مسؤولياتهم الخارجية وما يجب أو لا يجب، فهذا ما يشخِّصَه أهلُ الخُبرة من العلماء والفقهاء العدول في الأمور المصيرية والكلية.. أو يشخِّصَه المؤمنُ ببصيرته في الأمور العادية والجزئية.. ولكن الحذر ثمَّ الحذر من التَّبرير للنَّفس لأجل الهروب عن الوظيفة الشَّرعيَّة استثقالاً واستئناساً بمتاعِ الحياة الدُّنيا..  

العدو وتشويه مفردة الجهاد

لقد أدرك أعداءُ الدِّين ما للجِهادِ من مكانةٍ وتأثيرٍ كبيرٍ جداً في مواجهة باطلهم ومشاريعهم الشَّيطانية.. فعملوا على تشويه هذه المفردة وتغيير مفهومها بحيث تساوق معنى الفوضى والعنف غير المبرر والتخلف والعنجهية، وحيث أن "الجهاد الأصيل" وكذلك المؤمنون بريؤون كلَّ البراءة من تلك العناوين جاءوا بمجموعة من أوباش الأرض وسفلتهم والمخدوعين منهم، فأطلقوا عليهم اسم المجاهدين ثمَّ دعموهم وتركوهم يعيثون في أرض الإسلام الفسادَ باسم الجهاد، فشَّوهوا "مفهوم الجهاد" وحقَّقوا الغرض السَّيءَ لهم في نشر الخوفِ والفَوضى في بلادِ المُسلمين..

وقد تأثَّر بعض النَّاس البسطاء بما يحصل -رغم وضوح المؤامرة- فأصبح لفظ الجهاد لديهم ممجوجاً، ومن يتلبَّس بهذا الاسم -ولو كان أهلاً له- ممقوتاً..

وكلمة الفصل لكتاب الله!، حيث يقول سبحانه: 

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(البقرة:218). ويقول في مورد آخر: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}(آل عمران:142).

ويخاطب المؤمنين آمراً قارنا الجهاد بالتقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)}المائدة.

وفي سورة التوبة ما يبدو منه التهديد يقول تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }(التوبة:41)، بل يقول في نفس السورة في شأن المتخاذلين: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ }(التوبة:44).

ومن يـتأمَّل في هذه الآيات سيدرك عظمة الجهاد {الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}(التوبة: 20).

ونختم بهذه الآية مع الدعوة إلى مزيد تأمل فيها، يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}(الحج:77-78).

فالمؤمن لا يمكن إلا أن يكون مجاهداً في سبيل الله تعالى، والجهاد جزءٌ من الإيمان، ومقوِّم له، وكاشف عنه، وخلوُّ الإنسان منه يدلُّ على النقص وعدم الوعي، وعدم إدراك السر في بعثة الأنبياء والأئمةq..

نسأله! أن يأخذَ بأيدينا إلى طريق الصَّواب، ويجعلنا من المجاهدين في سبيله تحت راية وليه(صلوات الله عليه وعلى آبائهم الطاهرين).

والحمد لله ربِّ العالمين.

 

 


 


([1]) نهج البلاغة(الخطبة الشقشقية)، ج1، ص31.

([2]) نهج البلاغة، ج1، ص70.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا