آليات تحقيق الأمن الاجتماعيّ في الجانب المعيشيّ والاقتصاديّ في القرآن الكريم

آليات تحقيق الأمن الاجتماعيّ في الجانب المعيشيّ والاقتصاديّ في القرآن الكريم

الملخَّص:

تطرَّق الكاتب إلى بيان آليات الأمن الاجتماعي في القرآن الكريم، وذلك في الجانب المعيشي والاقتصادي، مقسِّما البحث إلى ناحيتين؛ ناحية تحصيل الأموال، وناحية إنفاق الأموال، مبيّناً دقّة القرآن في حفظ حقوق الجميع حتى المعتدي منهم، وإيجاب الإنصاف لنوع الإنسان، والحثّ على الإحسان خصوصاً للمؤمنين. وأنَّ هذه الآليّات ناظرة إلى تحسين جودة حياته استقراره النفسيّ، وتحسين جودة علاقاته الاجتماعيّة مع الآخرين. وأنَّ القرآن بيَّن سبل الوقاية من الأخطار المحدقة بالأمن الاجتماعيّ، وسبل رفع آثارها لو وقعت.

 

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على محمَّدٍ وآلِه الطيّبين الطّاهرين..

بيَّن القرآن -انطلاقاً من أسس الأمن الاجتماعيّ([1])- عدداً من الآليات التي يمكن تحقيق الأمن الاجتماعيّ بها، والمواضيع التي يتعرّض القرآن لها كآليات إمّا بالأمر بها أو النهي عنها، وقد تعرّض القرآن لعدّة من الآليات.

ومن هذه الآليّات ما يرتبط بالجانب المعيشيّ والاقتصاديّ، فالمال زينة الحياة الدنيا، فهو زينة خاصّة للفرد؛ يشتري به ما يسكنه ويركبه ويلبسه وغيرها من المنافع الشخصيّة، وهو كذلك زينة عامّة؛ يُستفاد منه في تجهيز البنى التحتيّة للمجتمع، وبناء المشاريع العامّة من مدارس وجامعات، وسدود ومصانع ونحوها ممَّا ينفع الناس([2])، ولعظم هذا الدور للمال، وتأثيره في استقرار حياة الفرد والمجتمع، انتهج الإسلام منهجاً وسطيّاً بين الرأسماليّة والشيوعيّة، فأثبت الملكيّة للفرد، وشجّعه على تحصيل المال بالحلال، وأباح له صرف المال فيما يشتهيه بالحلال، ومن جهة أخرى أثبت للمجتمع حقوقاً على الفرد من المحافظة على المال من جهة، والصرف فيما يفيد المجتمع في البناء والازدهار من جهة أخرى، ونظّم القرآن هذه الحقوق والواجبات بما يضمن أمن العلاقات الاجتماعيّة بين الناس، فيأمنون على أنفسهم عند معاملة الآخرين، لأنّهم يعلمون أنّهم يلتزمون بما أوجبه القرآن.

وعلى أيّ حال فالمستفاد من آيات القرآن الكريم الاهتمام بالمال من ناحيتَين؛ ناحية تحصيل الأموال وجمعها، وناحية التصرّف في الأموال وإنفاقها، واعتبر في هتين الناحيتين أن يكون التحصيل والتصرف من الحلال وفي الحلال.

واختصر القرآن هاتين الناحيتَين في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} (النساء، ٢٩)، وهذه الآية على اختصارها فهي بمنزلة الشرح والبيان لجملة كثيرة من الآيات الواردة في أحكام الأموال، وفيها حكم من الأحكام الاجتماعيّة التي لها ارتباط وثيق في حفظ النظام وسعادة الإنسان([3])، بل هي قاعدة أساسيّة فيما يتعلّق بالمعاملات الماليّة، وتعبير الآية {بِالْبَاطِلِ} يدلّ على أنّ أيّ تصرّف في المال في غير ما أقرّه الإسلام ممنوع بل هو لاغٍ في نظر الإسلام، فتحْت عنوان الباطل تندرج الكثير من العناوين، من الغشّ والمعاملات الربويّة، والتطفيف، والسرقة والغصب، والتجارة بأدوات اللهو والفساد، سواء كانت هذه العناوين في كيفيّة تحصيل الأموال أم في كيفيّة صرفها، ثمَّ استثنى القرآن -منقطعاً([4])- ما كان عن تراض من المتعاملَين، وهو إشارة إلى أنّ تحريم التعامل وأكل المال بالباطل لا يسدّ على الناس أبواب التحصيل تحصيل المال وصرفه، بل يمكن تحقيق ذلك بالتجارة المشروعة والكسب الحلال المرضي بين المتعاملَين، ما لم ينه عنه الشارع بوجه خاصّ([5]).

وأمّا قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} فهو إشارة إلى أنّ العلاقات الاجتماعيّة إذا لم تكن قائمة على الأسس الصحيحة، بل كانت قائمة على أسس مريضة وملتوية ووقع فيها الظلم والعدوان على أموال الغير أصيب المجتمع من بنوع من الانتحار والانحدار والتزلزل والتفكّك([6]).

وفيما يلي ناحية تحصيل الأموال، وفيها ست آليات، وناحية إنفاق الأموال، وفيها ستّ آليّات كذلك.

الناحية الأولى: تحصيل الأموال

أكّد القرآن الكريم في ناحية تحصيل الأموال على احترام مال الغير، فلا بدَّ أن يتقيّد بهذا الأمر إذا تعامل مع الآخرين بغرض تحصيل الأموال وجمعها، ويظهر ذلك من مثل قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة، 188).

فإنّ في الآية دلالة على أن احترام الإنسان مال غيره مثل احترام مال نفسه، والخيانة في مال الغير جناية على الفرد والمجتمع([7]).

والتعبير بالأكل في الآية يعطي معنى واسعاً يشمل جميع التصرفات، والأكل إنّما هو أحد المصاديق البارزة للتصرف الباطل في أموال الغير، فكلّ تصرف في أموال الغير من غير الطريق المشروع مشمول للنهي في الآية([8]).

الآليّة الأولى: الوفاء بالعقود

إنّ الوفاء بالعهد والوفاء بالعقد كأحد مصاديقه مّا لا يستغني عنه الإنسان في حياته، والمجتمع في ذلك سيّان، وانتفاء الوفاء يعني انتفاء العدل الاجتماعيّ.

ومن هنا أكدّ القرآن على الوفاء بالعهد والعقد في جميع معانيه ومصاديقه وذمّ ناقضي العهود والعقود، ومن مصاديق العهود والعقود هي العقود والعهود الماليّة وهي ما يدور البحث عنها هنا([9]).

حيث يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ..} (المائدة، 1).

الوفاء بالعقد قائم على الحقّ لا على المنافع:

ولكون وجوب الوفاء بالعقود هو من حيث إنّها روابط اجتماعيّة وعهود وحقوق، وإنّ رعايتها رعاية للعدل الاجتماعيّ لم يكن وجوب الوفاء به مختصّاً بنفع العاقد، بل يجب الوفاء بها سواء عاد النفع على العقد أو تضرَّر، بخلاف ما عليه النظرة الماديّة التي تستجلب النفع الشخصيّ‌ ([10]).

الآليّة الثَّانية: حرمة التطفيف

إنّ التطفيف في الميزان من العوامل الأساسيّة في اختلال النظام الاقتصاديّ من جهة وسبب في عذاب وهلاك بعض الأمم السالفة من جهة أخرى.

يقول تعالى: {وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (الأعراف، 85)، ويقول تعالى: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (هود،85).

قرَنَ القرآن هنا بين التوحيد وبين الإيفاء بالكيل وعدم بخس الناس أشيائهم وعدم الإفساد في الأرض، فإنّ الغشّ في المعاملات والخيانة فيها يوجب هدم أسس الطمأنينة والثقة العامّة، وبهذا ينهدم النظام الاقتصاديّ للمجتمعات، ومن هنا كان الإيفاء بالكيل والميزان أحد الموضوعات المهمّة التي ركّز عليها القرآن مقترنة بالتوحيد، حتى أنّه روي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: >خَمْسٌ بِخَمْسٍ.. وَلاَ طَفَّفُوا الكَيْلَ إِلَّا مُنِعُوا اَلنَّبَاتَ وَأُخِذُوا بِالسِّنِينَ<([11])، فإذا منعوا النبات وأخذوا بالسنين عاشوا الفقر والذلّة وارتفعت الطمأنينة والاستقرار بينهم([12]).

ويقول تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} (الرحمن، 7-9).

اعتبر القرآن التطفيف والخسران في الميزان مرادفاً لنظام الخلق في عالم الوجود، وتشير الآية هنا إلى أنَّ مسألة التطفيف ليست مسألة صغيرة، بل هي كبيرة وتدخل في صميم أصول العدالة ونظام عالَم الوجود، ولذلك كان التطفيف ضربة شديدة للثقة التي تُعتبر جوهر استقرار العدل الاجتماعيّ والاقتصاديّ بين الناس([13]).

ويقول تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} ( المطففين، 1-5).

تعرّض القرآن في هذه الآية إلى ذمّ المطففين الذين يراعون لأنفسهم الحقّ بأدقّ من الشعرة، ولا يراعونها لغيرهم، بل يتفننون في استراق الناس واستلابهم، ثمّ هدَّدهم باليوم العظيم وهو يوم القيامة حيث توفى كلّ نفس ما عملت، وذمّ القرآن وتهديده للمطففين لما في التطفيف من فساد وإفساد للمجتمع الإنسانيّ كما تقدّم([14]).

ويقول تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (الإسراء، 35).

بعد بيان ما يؤدِّي إليه التطفيف من إفساد في الأرض وإخلال بنظام العدل الاجتماعيّ والاقتصاديّ يؤكد القرآن على الإيفاء بالكيل، وأنّه أحسن تأويلاً لما فيه من رعاية الاستقامة وتقويم معايش الناس واستقرار الأمن والثقة العامّة بينهم([15]).

الآليّة الثالثة: حرمة السرقة

حين تمتدّ يدٌ خائنة إلى ملك الآخرين بغير حقّ فإنّها تمتدّ إلى أمن المجتمع، وأمن كلّ الناس، فيمتد الخوف من آثارها إلى أفراد المجتمع كافة ممّا يؤدي إلى ضعف في تقدم المجتمع.

يقول تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المائدة، 38-39).

تذكر الآية أنَّ الله تعالى يتوب على السارق إذا تاب وأصلح، والتعبير بـ{وَأَصْلَحَ} يدلُّ على أنّ ما فعله السارق بسرقته إفساد وهز للأمن الاجتماعيّ، فلا بدَّ من إصلاح ما فسد بالسرقة.

ولأنَّ هدف الإسلام الأساس من تشريع هذه الجزاءات هو تزكيّة المجتمعات من الجرائم ومن آثارها، واستقرار المجتمع وأفراده، وليس الانتقام من مرتكب هذه الجرائم، فتح باب التوبة للسارق من جهة، واشترط أموراً يسقط من دونها الحدّ على السارق:

١. الهروب إلى التوبة أسلم:

فتح القرآن باب التوبة أمام السارق ليرجع عمّا اقترفه من ذنب، ويرجع ما سرقه إلى أصحابه، يقول تعالى: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ}، نعم قد اشترط أموراً في هذه التوبة أن تكون توبةً نصوحاً لا توبة لفظيّة لا أثر لها([16]).

٢. شروط معاقبة السارق:

ولأجل ما ذُكر آنفاً من أنَّ مراد الإسلام هو الإصلاح واستقرار الفرد والمجتمع، فإنَّ حدَّ السرقة مشروط بشروط:

١. أن يكون ثمن الشيء المسروق ربع دينار أو أكثر([17]).

٢. أن تكون السرقة من مكان محفوظ، في دار أو محلّ للكسب، أو من جيوب ومخابئ.

٣. ألّا تكون السرقة في زمن القحط والجفاف والمجاعة.

٤. أن يكون السارق مكلّفاً شرعيّاً (بالغاً عاقلاً حرّ الإرادة) حال السرقة.

٥. استثناء كون المسروق من مال الولد، أو من الشريك من مال شريكه المتشارك فيه.

٦. استثناء كون المسروق هي الفاكهة من البساتين.

٧. استثناء حالة اشتباه السارق بين ماله ومال غيره([18]).

وسيأتي مزيد بحث في هذه الشروط في مبحث الأحكام الفقهيّة لآليات الأمن الاجتماعيّ.

كلّ هذه الشروط إنّما هي لحفظ المجتمع واستقراره، وحفظ استقرار الأفراد في هذا المجتمع.

نعم، هذه الشروط إنّما هي لتحققّ حدّ السرقة، والسرقة نفسها حرام في الإسلام مهما تناهى صغر المسروق، وكانت ملابسات جريمة السرقة([19]).

الآليّة الرَّابعة: أداء الأمانة

تعرّضت الآيات إلى أداء الأمانة وخيانتها في عدّة مواضع من القرآن الكريم، وما ذلك إلّا لبيان أثرها في المجتمع([20]).

والأمانة لا تتخلّف عن التقوى والعدل، بل إنّ التقوى تقتضي رعاية الأمانة وصيانتها، ولا يكفي فيها حفظها فقط من دون مراعاتها؛

١. العلاقة بين الأمانة والتقوى:

يقول تعالى: {وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ۖ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ۗ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ۚ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (البقرة، 283).

قرنت الآية بين أداء الأمانة وبين تقوى الله سبحانه وتعالى، وما ذلك إلّا لكون أداء الأمانة ركناً من أركان التقوى، التقوى التي هي الأصل في جميع التشريعات السماويّة، وهي روح العمل وقوام الدين والأصل في كلّ تشريع، وبدونها يصبح المجتمع غابةً يأكل فيها القويُ الضعيفَ، ويمكر الأخ بأخيه([21]).

٢. العلاقة بين الأمانة والعدل:

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} (النساء،58).

إنّ الأمر بأداء الأمانة وتقديمها على الأمر بالعدل وإظهار لفظ الجلالة ونسبة الأمر إلى نفسه(عزّ وجلّ) كلّ ذلك يدلّ على شدّة الاهتمام بذلك وأثره على المجتمع والفرد، وتنظيم حياتهم الاجتماعيّة وعلاقاتهم ومسؤوليّاتهم، وأنّ عدم أداء الأمانة من الظلم وإيقاع الناس في الخوف على أملاكهم من أعظم الظلم([22]).

٣. رعاية الأمانة:

قال تعالى في وصف المؤمنين في سورة (المؤمنون) عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (المؤمنون، 8)، واستثناهم من الهلوعين الجزوعين في سورة المعارج، عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}(المعارج، 32).

أن يرعى الأمانة أي أنّه -بالإضافة إلى المحافظة عليها من وقوع الضرر أو تعرضها للخطر- يجب عليه إصلاحها لو وقع فيها ما يوجب ضررها، وهذا إنّما لكون أداء الأمانة من أهمّ القواعد في النظام الاجتماعيّ، ودون ذلك يتخبط المجتمع([23]).

الآليّة الخامسة: حفظ مال اليتيم

اليتيم أضعف الحلقات الاجتماعيّة، ولا يملك حولاً ولا قوّة ضدّ الاعتداءات على نفسه أو ماله، وفي قبال ذلك الوليّ على اليتيم أقوى الحلقات الاجتماعيّة، ولا بدَّ لهذا الوليّ من أن يكون عاقلاً أميناً يرعى تربيّة اليتيم وحفظ ماله، حتى يصبح مستقِلّاً في نفسه، ويعرف ما يصلح أمره ويفسده، ومن هنا فرض الإسلام تحمّل هذه المسؤوليّة وبيّن خطر التساهل فيها والتساهل في أكل مال اليتيم وعدم أدائه إليه، وبيّن النتائج السلبيّة لذلك على الفرد والمجتمع([24]).

يقول تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۖ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأنعام، 152) ويقول. تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۚ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} (الإسراء، 34)، ويقول تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ۖ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} (النساء،2)، ويقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} (النساء،10)، ويقول تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُوا ۚ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ ۖ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيباً} (النساء، 6).

أشارت الآيات المتقدّمة إلى وجوب حفظ مال اليتيم، وهدَّدت بعدم القرب من مال اليتيم{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، تأكيداً وتشديداً على حرمة مال اليتيم والتصرُّف في أمواله، واستثنت أن يكون القرب من مال اليتيم بالتي هي أحسن لليتيم، فعلى الوليّ أن يحافظ على أموال اليتيم ويدبرها لمصلحة اليتيم([25]).

وحذّرت الآيات من تبديل الخبيث بالطيّب من مال اليتيم، أو خلط أموال اليتيم بأموال الوليّ لكيلا يعلم أيّها مال اليتيم {وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ۖ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ}، بل وصل التشديد على حرمة مال اليتيم بأن مثلّت من يأكل أموال اليتيم بالظلم ويتصرّف فيها تصرّفاً غير مشروع وبغير وجه شرعيّ بمن يأكل في بطنه ناراً {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً}، فإنْ كان الوجه الظاهريّ لفعلهم أنّهم يأكلون من الأطعمة اللذيذة الملونة، فإنّ الوجه الواقعي هو النار الملتهبة، وهذا الوجه هو الذي يتجلّى على حقيقته في عالم الآخرة، وهي كناية عن الإثم العظيم، ولعلَّ هذا التعبير يكون رادعاً عن التفكير في أكل مال اليتيم ظلماً، فضلاً عن الهمّ بذلك ([26]).

وأمّا العذاب الأخرويّ فقد وعدهم الله(عزّ وجلّ) بالسعير {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}، وهي نار عظيمة لا يعلم أحد وصفها إلّا اللهa([27]).

هذا وقد سمح الإسلام للوليّ بأن يأخذ شيئاً من أموال اليتيم إذا كان فقيراً {وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}، مشروطاً بكونه بالمعروف حسب أجرة مثل عمله، فيرعى جانب العدل والإنصاف فيما يأخذه بعنوان الأجرة، وإن كان غنيّاً فلا يأخذ من مال اليتيم شيئاً أبداً {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ}([28]).

فإذا بلغ اليتيم أشدّه ووصل مرحلة البلوغ وجب تسليم أمواله إليه، ولأنَّ القرآن قائم على حفظ حقوق الفرد والمجتمع وحفظ أواصر المجتمع واستقراره لم يشترط البلوغ الجسميّ وحسب، بل اشترط الرشد الفكريّ والقدرة الاقتصاديّة بحيث يتأهّل اليتيم لأن يحفظ أمواله إذا سُلمت إليه {وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ}([29])، ويُعلم وصول اليتيم إلى الرشد الفكريّ والقدرة الاقتصاديّة باختباره المرّة بعد المرّة، بحيث يكون الاختبار نفسه تعليماً ومهيّئاً لليتيم قبل بلوغه، حتى يستأنس ويألف منه الرشد، فيدفع إليه أمواله، {وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}([30]).

وتأكيداً لما تقدّم من أنّ القران يحفظ حقوق الجميع ولا يغفل عنها أمر بالإشهاد على تسليم المال إلى اليتيم، {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}، دفعاً ورفعاً للخلاف والنزاع الذي يمكن أن يدّعيه طرف من الأطراف على الوليّ([31]).

الآليّة السادسة: حرمة الرِّبا

من الناس من ينفق أمواله في سبيل الله لبناء المجتمع والارتقاء بحياة الفقراء والضعفاء، ومنهم من يمتصُّ المال من كلَّ مكان يستطيع الوصول إليه، ومن هؤلاء المرابون، الذين يديّنون الناس بشرط الزيادة، وهذا الأمر وهو الرِّبا نحو من التبادل الاقتصاديّ غير السليم، يؤدّي إلى تراكم الثروة لدى فئة قليلة، وفي المقابل تضاعف فقر فئة كبيرة من الناس، ولا يجنون منه إلّا الأضرار والضغوط النفسيّة والاجتماعيّة، فتتسع الفجوة بين أفراد المجتمع الواحد، ويضعف أمن العلاقات الاجتماعيّة([32]).

وفي هذا الشأن يقول تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ۚ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (البقرة، 275-279).

لقد تناولت هذه الآيات مسألة الرِّبا بشكل جامع، فقد شدّد الله تعالى في أمر الرِّبا بما لم يشدِّد بمثله في شيء من فروع الدين إلّا في تولّي أعداء الدين، وليس ذلك إلّا لسوء تأثير الرِّبا؛ فينهدم به بنيان الدين، ويفسد به نظام المجتمع، والتاريخ يشهد بهذه الآثار العظيمة السيّئة([33]).

١. مصير المرابي:

ويُعلم تشدّد القرآن بتشبيه المرابي بمن به جنّة أو صرع، فلا يستطيع الحفاظ على توازنه فيتخبط في خطواته {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}، وإذا نظرنا إلى المرابي في طريقة سيره الاجتماعيّة فهو كالمجنون في أعماله، فلا تفكير اجتماعيّ سليم لديه، ولا هو يشخّص منافعه الخاصّة، فيتوهَّم أنّ المنفعة في أموال الرِّبا، ويسيطر على عقله بريق المال حتى أنّه يعميه عن إدراك ما يؤل إليه أمره من الجشع والاستغلال([34]).

هذا في الحياة الدنيا، وأمّا في الحياة الآخرة فقد رُوي عن رسول اللهe أنّه قال: >لَمَّا أُسْرِيَ بِي إِلَى اَلسَّمَاءِ رَأَيْتُ قَوْماً يُرِيدُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَقُومَ فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَقُومَ مِنْ عِظَمِ بَطْنِهِ، فَقُلْتُ مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جَبْرَئِيلُ قَالَ هَؤُلاَءِ {اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبٰا لاٰ يَقُومُونَ إِلاّٰ كَمٰا يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطٰانُ مِنَ المَسِّ}<([35]).

٢. فساد أموال الرِّبا:

يحرّض القرآن على الإنفاق وتوزيع الثروة بالعدل والإنصاف، وإزالة تمركز الثروات والابتزاز التمايز، وبيان لبركة الصدقة في قبال الرِّبا، يقول تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}([36]).

وبركة الصدقة في إربائها لا يختصّ بالحياة الآخرة، بل هي عامّة تشمل الدنيا كذلك، فإنّها تنشر الرحمة وتورث المحبّة والتفاهم وتألّف القلوب وتبسط الأمن، وتصرف القلوب عن البغضاء أو أنْ تهمَّ بالسرقة والاختلاس والإفساد، وتدعوا إلى الاتحاد والتعاون، وفي القبال فالرِّبا يمحق المال ويفنيه وينشر القسوة والخسارة، ويورث البغضاء والعداوة وسوء الظنّ، ويفسد الأمن، ويهيّج النفوس، حتى عدّت الآية المرابي في عداد الكفّار الأثيم {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}([37]).

٣. الله تعالى يحارب المرابي:

تكرّر الآيات التشديد والوعيد على المرابي، فتتغير لهجة الخطاب هنا فبعد النصح والعظة تجاه المرابي، فتهدّد من لم يتب بعد بيان حرمة الرِّبا وآثاره السلبيّة على الفرد والمجتمع بالحرب من الله(عزّ وجلّ) ورسول الله(صلى الله عليه وآله) {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}، وهذا لإيقافهم عند حدّهم، وإرعاب من لم يرتدع بالنصح والعظة([38]).

٤. حفظ حقّ المرابي بعد توبته:

تكرّر الكلام أنّ مراد القرآن هو حفظ أمن نوع الإنسان، والمحافظة على أموال نوع الإنسان، فإذا تاب المرابي فإنّ له أصل ماله، فإنّه كما أنّ عليه ألّا يظلم الناس بأن يأخذ الرِّبا عليهم، فإنّه لا يُظلم بمصادرة رأس ماله والتعدّي عليه، فيردّ أموال الناس إليهم، ويبقى أصل ماله له، {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}([39]).

النَّاحية الثَّانية: إنفاق الأموال

اهتمّ القرآن أعظم اهتمام بجانب إنفاق الأموال كما اهتمّ بجانب تحصيلها، سواء بالوجوب أو الندب، عن طريق الزواج والخمس والكفّارات الماليّة، والفدية، والنفقات الواجبة والمندوبة، والصدقات، وكلّ ذلك إنّما هو محاولة لحلّ مشكلّة اجتماعيّة كبرى، وسدّ الهوّة بين الفقراء والأغنياء، ومحو للتباين الطبقيّ، وفتح أبواب التعاون الإنسانيّ الحقيقيّ، فيرتفع سطح معيشة الطبقة الفقيرة من جهة، ويمتنع أهل الطبقة الغنيّة من التفاخر والبعد عن المعروف الإسراف والتبذير([40]).

وقد تعددّت الآيات التي تحثُّ على الإنفاق، فمنها قوله تعالى: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} (المنافقون، 10)، ومنها قوله تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنّاً وَلَا أَذًى ۙ لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ ۖ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْالبَابِ * وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ۗ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ * لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة، 261-274).

يقول السيّد السبزواريّ في بيان هذه الآيات: "الآيات الشريفة تبيّن ما يتعلّق بالإنفاق من فضله، وموضوعه، ومورده، والغرض منه، وكيفيّته، وبعض شروطه وآدابه، وهي أجمع آيات وردت في هذا الموضوع"([41]).

وبالتأمّل في هذه الآيات يُعرف ما للإنفاق من عظيم شأن عند الله تعالى، فكانت الآيات كلّما تطرّقت إلى موضوعٍ في الإنفاق حثّت على الإنفاق وأكدّت على حسنه وأثره الإيجابيّ على المنفِق، حتى اعتبرت الإنفاق من الحكمة والكمال التي يؤتيه الله من يشاء من عباده.

وإذا التزم الناس بمؤدّى هذه الآيات ضمنوا الأمن في تعاملاتهم، وحياتهم.

بل إنّ ورود هذه الآيات بعد آية كانت في إحياء الموتى -في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة، 260)- دلالة على أنّ الإنفاق نحو من الإحياء للحياة الاجتماعيّة والفرديّة ([42]).

وهنا تفصيل للآليّات التي اتّبعها القرآن في ناحية إنفاق الأموال:

الآليّة الأولى: تعظيم بركة وأجر وآثار الإنفاق السليم

حثَّ القرآن -كما تقدَّم- على الإنفاق السليم، ووضع له ثواباً عظيماً له صفات قلّت أن تكون في غيره من الأمور التي دعا إليها، حتى يضمن انتشار الإنفاق السليم بين الناس، وبذلك تسود العلاقات السليمة بين الأغنياء والفقراء، فيأمن الفقير من العوز، ويأمن الغنيّ من الحسد والسرقة وما أشبه.

أ. بركة لا يعلمها إلّا الله:

إنَّ بركة الإنفاق في سبيل الله عظيمة حتى أنّها تعدل سبعمائة ضعف، بل أكبر، حيث يقول تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، فالأصل أنّه يعدُّ سبعمائة ضعف، ولكنّ الله سبحانه يضاعف لمن يشاء أكبر من سبعمائة ضعف.

وتضاعف بركة الإنفاق في سبيل الله ليست محصورة في الحياة الآخرة، بل يشمل الحياة الدنيا، فإنّ الآيات لم تقيّد هذه البركة بالآخرة، بل أطلقتها، وبالتأمل فإنّ بركة الإنفاق بادية على المنفِق والمنفَق عليه، بل وعلى المجتمع بشكل عامّ([43]).

وأطلقت الآية الإنفاق {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ليشمل كلّ سبيل موصِل إليه تعالى، فكلّ ما ليس منهيّاً عنه شرعاً وأحرز فيه رضا الله تعالى هو من الإنفاق في سبيل الله، وإلّا كان الإنفاق هباءً منثوراً ([44]).

ب. أجر لا يعلمه إلّا الله:

بيّنت الآيات أنَّ الإنفاق بلا منٍّ أو أذى يجازى به المنفقين بأجر من عند ربهم، وإطلاق الأجر من دون بيانه يدّل على عظم هذا الجزاء، وأنّه لا يعلمه إلّا اللهa، إذ يقول تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنّاً وَلَا أَذًى ۙ لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، وهذا إنّما هو لاهتمام القرآن بالجانب المعنويّ والاجتماعيّ، ولا يُعتبر رأس مال الإنسان مقتصِراً على الجانب المالي المادّيّ([45]).

فإذا خلا الإنفاق من المنّ والأذى ولم يُتبَع بهما كان أجر ذلك الإنفاق عظيماً لا يعرفه يتصوّره حتى أنّ الآية نسبت الأجر إلى الله ولم تبيّنه {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، ونسبة الأجر إلى الله في الوقت التي تبيّن عظم هذا الجزاء هي تكريم للمنفِقين، فقد نسبهم الله إلى نفسه فلم تعبر الآية (عند الله) بل {عِندَ رَبِّهِمْ}، ولا خوف عليهم في المستقبل ولا هم يحزنون على ما أنفقوا في سبيل الله، فإذا أحرز العبد هذا الثواب لم يتمنَّ وراءه شيئاً([46]).

جـ. تعظيم المنفَق:

بيّنت الآيات أنّ ما ينفقه المنفق فهو بعين الله وهو يعلمه، ولا يخفى عليه، وإن خفي على الناس، وذلك تشجيعاً لهم لمزيد من الإنفاق في سبيله تعالى، حيث يقول تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ}.

د. الإنفاق السليم من الحكمة:

{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْالبَابِ}.

والإنفاق في سبيل الله هو من الحكمة التي يؤتيها الله تعالى من يشاء من عباده، وذلك لما في الإنفاق من تحقيقي لسعادة الإنسان والمجتمع، ومَن منّ الله عليه بهذه الخصلة والحكمة والالتفات إليها وتذكّرِها فقد أوتي الخير الكثير، وذلك لما للإنفاق من آثار تعود على المنفِق نفسه([47])، يقول تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْالبَابِ}.

الآليّة الثَّانية: وضع آداب وشروط للإنفاق

وضع القرآن آداب وشروط للإنفاق حتى يكون سليماً، ويتحقّق منه ما يُراد أمنه على وضعه الماليّ من جهة، وأمنه على كرامته من جهة أخرى.

أ. الردّ الجميل خير من الأذى:

ولأنَّ المراد من الإنفاق ليس الأموال نفسها، بل بناء الفرد والمجتمع أكدّت الآية على القول المعروف والردّ الجميل إذا لم يجد ما يبذله، وهو أفضل من الصدقة المتبوعة بالأذى، يقول تعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى}([48])، يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازيB في بيان ذلك: "فإنّ قول المعروف والمغفرة من الآداب العامّة التي تبتهج بها النفوس، وتميل إليها القلوب، وتحثّ على العمل، وتبعث العزيمة على البذل، وتوجب نموّ الإنفاق والزيادة، وهذا معنى الخيريّة فيهما دون الأذى فإنّه من موانع القبول، ومن مثبطات العمل ،وموهنات العزائم، تجلب البغضاء بين الأفراد"([49]).

ب. صدق النيّة شرط في الإنفاق:

بيّنت الآيات الوجه المقابل لاتباع الإنفاق بالمنّ والأذى، وهو صدق النيّة وطلب رضا الله تعالى وإرادة وجهه في الإنفاق، ومثّلت للبركة في ذلك بالبستان المرتفع التي يصيبه المطر فيؤتي ضعف ما يؤتي غيره، حيث يقول تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}([50]).

جـ. الإنفاق من المال الطيّب:

ينبغي أن يكون الإنفاق من المال الطيّب، لا من الخبيث الذي لا يقبله المنفِق، فيتخلص منه بإنفاقه على غيره، فإذا كان على وجه التخلّص لا الجود لم يؤثِّر الأثر المرجوّ من الإنفاق في سبيل الله، لا مادّيّاً ولا معنويّاً، والله تعالى غنيّ عمّا تنفقونه تخلّصّاً([51])، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ ۖ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}، ويقول تعالى: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (آل عمران، 92).

د. الإنفاق لمن يستحقّ:

يقول تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ} (البقرة،273).

أفضل مورد الإنفاق ومصرف الصدقات هو الفقراء الذين لا يقدرون على تأدية عوامل تحصيل المال، كعدوّ سلبهم ما يعملون به أو حصرهم فلا يستطيعون العمل، أو مرض أو اشتغالهم بما لا يستطيعون معه الاشتغال والتكسب([52]).

هـ. إخفاء الصدقات:

إنّ للإنفاق أنحاء ومن أنحائه أن يكون بالسرّ أو بالعلن، وفي كلّ منهما آثاره الحسنة، وفيه إخلاص من المنفِق، وقد مدح الله تعالى كلّا من النحوين، يقول تعالى: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}([53]).

و- الإنفاق محمود بكلّ أشكاله:

ومن أنحاء الإنفاق هو الإنفاق بالليل أو النهار، وهو نحو من استيفاء جميع أنحاء الإنفاق وانتخاب لمختلف وجوه الإنفاق، واهتمام من المنفِقين في استيفاء الثواب وابتغاء مرضاة الله، فإذا فعلوا ذلك استحقوا من الله تعالى أن لا خوف عليهم من المستقبل ولا هم يحزنون على ما أنفقوا لعلمهم بما يكتسبون بالإنفاق من الله في الدنيا والآخرة ([54])، يقول تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.

الآليّة الثَّالثة: المنع عن الإنفاق غير السليم

منع القرآن الكريم عن الإنفاق غير السليم، وبيّن آثاره سواء بالنسبة للمنفِق أو المنفَق، أو المنفَق عليه، لتثبيت أمن كلّ من المنفِق والمنفَق عليه، بل وعلى أموالهما، ويظهر المنع عن الإنفاق غير السليم في عدة أمور نذكر بعضها:

أ. المنّ والأذى إحباط لثواب الإنفاق:

أعادت الآيات الكلام عن اتباع الإنفاق بالمنّ والأذى، وبينما نهت عن المنّ والأذى سابقاً، إلّا أنّها بيّنت أثر المنّ والأذى هنا، وهو إبطال وإحباط ما للإنفاق من أثر وثواب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ}، ولم يرد في القرآن أنّ شيّئاً يحبط العمل غير المنّ والأذى إلّا الشرك بالله والكفر به([55]).

ثمّ صوّرت الآيات الإنفاق المتبوع بالمنّ والأذى بمن يرائي في عمله، يقول تعالى: {كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ۗ}، هذا الخطاب بعدم المنّ والأذى موّجه للمؤمنين، والرياء لا يقع من المؤمن، فإنّه لا يقصد بأعماله وجه الله تعالى([56]).

ب. الخسران مصير الاتباع بالمنّ والأذى:

تقدّم في البيان المختصر أنّ الآيات تكرِّر الحثّ على الإنفاق وبيان آثاره، وهنا تكرر الآيات مصير من يتبع الإنفاق بالمنّ والأذى، يقول تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}، فلا سبيل لمن تبع الإنفاق بالمنّ والأذى إلّا أن يعيد العمل على النحو الصحيح، وإلّا انطبق عليه المثل، ولم يستفد من إنفاقه الأوّل إلّا الخسران ([57]).

جـ. لا تكفير للإمساك إلّا بالأداء:

عدّت الآيات الممسكين عن الإنفاق في سبيل الله من الظالمين، فإنّ الإمساك عن الفقراء والمساكين ظلم لهم، وحبس لحقوقهم الماليّة، وهذا الظلم لا يقبل التكفير ولا التوبة إلّا بأداء حقوق الناس وردّ ما يستحقون إليهم، فلا أنصار لهم ما لم يؤدّوا حقوق الناس، يقول تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}([58]).

الآليّة الرَّابعة: مكافحة مثبّطات الإنفاق السليم

يقول تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة، 229).

إنّ من أكبر مثبطات الإنفاق والإخلاص فيه هو وسوسة الشيطان وتسويله وتخويفه، خصوصاً إذا أراد التصدّق بالمال الطيّب المرغوب، سواء في الإنفاق المندوب أو واجب، يقول تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ}.

وفي القبال يعد الله من يتبعه سبحانه بالمغفرة والبركة والزيادة والفضل من سبحانه، وكأنَّه يقول إنَّ إنفاقك هنا هو أخذ لا إعطاء للمال، فتنفق وتحصل على المال والبركة في المقابل مادّيّاً ومعنويّاً([59])، يقول تعالى: {وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، وقد نقل عن أمير المؤمنينg أنّه قال: >إِذَا أَمْلَقْتُمْ فَتَاجِرُوا اللَّهَ بِالصَّدَقَةِ<([60]).

الآليّة الخامسة: بيان صور الإنفاق السليم

تقدّم أنّ الإنفاق في سبيل الله، يشمل الإنفاق المندوب والواجب، حتى لا يحار الإنسان في مواضع الإنفاق السليم، ولكي يضمن الوصول لآثاره، ويسود بذلك الاستقرار في علاقات الإنسان الاجتماعيّة:

١. الزكاة:

الزكاة واحدة من أهمّ موارد تأمين الحاجات المادّيّة والمعنويّة، ونصرة المحرومين ومكافحة الطبقيّة، وللزكاة أهمّيّة في القران الكريم حتّى عدّ من يمنع الزكاة من الكافرين، يقول تعالى: {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} (فصّلت، 7)، وعن النبيّ محمّدe: >مَنْ مَنَعَ قِيرَاطاً مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلاَ بِمُسْلِمٍ وَلاَ كَرَامَةَ<([61]).

ولو أنّ جميع المسلمين أدّوا ما عليهم من زكاة لم يبقَ فقير أو محروم في المجتمعات الإسلاميّة([62])، فعن الإمام عليّg: >وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ أَدَّوْا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ مَا بَقِيَ مُسْلِمٌ‌ فَقِيراً مُحْتَاجاً، وَلاَسْتَغْنَى بِمَا فَرَضَ اللهُ(عَزَّ وَجَلَّ) لَهُ، وَإِنَّ النَّاسَ مَا افْتَقَرُوا وَلاَ احْتَاجُوا وَلاَ جَاعُوا وَلاَ عَرُوا إِلَّا بِذُنُوبِ الْأَغْنِيَاءِ<([63])، ومن هنا كان أداء الزكاة من خصال الراسخين في العلم، يقول تعالى: {لَّٰكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ۚ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ ۚ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} (النساء، 162).

٢. الخمس:

يُعد الخمس أحد أركان الكيان المالي للمجتمع الإسلاميّ، ومن دون كيان ماليّ ليس للمجتمع استقرار وقدرة على فرض الأمن الداخليّ والخارجيّ، والقيام بمعيشة الأفراد من مصارف الخمس، يقول تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الأنفال، 41)، والخمس فريضة على المسلمين، ومن لا يؤمن به فلم يؤمن باللهd، يقول تعالى: {إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ}، فمع أنّ الآية نزلت في محضر المجاهدين الذين بذلوا أنفسهم بين يدي الله تعالى ورسوله(صلى الله عليه وآله) فإنّهم ما لم يؤمنوا بهذه الفريضة فليسوا بمؤمنين، وليس ذلك إلّا لخطر وعظم أثر الخمس في المجتمع الإسلاميّ ([64]).

٣. التداين:

يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً ۚ فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ۚ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ۖ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ۚ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ۚ وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَىٰ أَجَلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا ۖ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ۗ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة، 282).

أكّد القرآن على الاهتمام بحقوق الناس، ولأنَّه  دستور متكامل، فقد وضع تعليمات دقيقة لتنظيم الروابط التجاريّة والاقتصاديّة التي لم تخلُ من النكات الاجتماعيّة، حتى تنمو الثروات نموّاً سليماً، وهذه الآيات التي تتحدّث عن التداين تذكر تسع عشرة مسألة من مسائل تنظيم الشؤون الماليّة، بل تصل إلى أكثر من ذلك بملاحظة الأحكام الضمنيّة، وبمراعاة هذه المسائل يُحفظ المال عن الضياع، ويُرفع التنازع والاختلاف، وبذلك يستقرّ المجتمع، بل ينمو ماليّاً واجتماعيّاً([65]).

والدَّين أعمّ من القرض، فإنّ القرض يعيده المقترِض كما هو، فنقد إن كان نقداً، وثوب إن كان ثوباً، وهكذا، فينحصر القرض في المثليّات دون القيميّات([66])، وأمّا الدَّين فيثبت إمّا بالقرض أو بغيره كالبيع نسيئة والزواج بمهر مؤجّل، بل مطلق التعاملات كالمصالحة والبيع والإجارة وغيرها، بحيث يكون أحد المتعاملَين مديناً للآخر([67]).

وفي التالي بيان لبعض المسائل التي تذكرها الآية بما يتعلق بالبحث، من قبيل تدوين المعاملات التجاريّة، وشروط المدوِّن، وبعض آداب التدوين، والإشهاد والشهادة وآدابهما:

تحثّ الآية على كتابة تدوين المعاملات التجاريّة -التي يتأخَّر فيها الثمن أو المثمن- بتفاصيلها، حتى لا يقع الخلاف بين الناس، ويطمأنّ المتعاملان على أموالهما، ومن هنا ذكرت الآية أنّ الكاتب يكون ثالثاً غيرهما وأن يكتب بالعدل، فلا يتهمّ أحد المتعاملين الآخر بكتابة العقد بغير العدل، وعلى هذا الكاتب ألّا يمتنع وذلك حفظاً للعلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، ويستشهد المتعاملَين بشاهدين موضع ثقة وعادلين، وبعد أن يشهدا عليهما أن يحضرا لأداء الشهادة إذا ما دعوا لها، ولا فرق في كتابة الدَّين صغيراً كان أو كبيراً، فإنّ بعض العقود الصغيرة تجرّ أكبر المشاكل، فالدقّة في تنظيم العقود تضمن تحقيق العدالة، وتحول دون سوء الظنّ([68]).

ثمَّ تذكر الآية شيئاً مهمَّا في حفظ هذه التعليمات، بحيثُ تكون كتابة التداين نوعاً من الشيء السائد، ولا تتأثَّر بالإرعاب والتخويف وغيرها من الأمور، وذلك حفاظاً على العلاقات الاجتماعيّ والاقتصاديّة للمجتمع، فبيَّنت أنَّ من يضرّ الكاتب أو الشهود في كتابة التداين فقد فعل إثماً وفسوقاً يخرجه عن العبادة لله تعالى([69]).

ويذكر القران تعليماتٍ تحفظ العلاقات الاجتماعيّة وتقدّمها على الاقتصاد؛ فإنّ الدَّين وإن كان من حقّ الدائن، إلّا القرآن يحثّه على عدم الضغط على المدين في تحصيل دَينِه، بل يمهله مزيداً من الوقت لتسديده إلى حين يقدر على ذلك، بل ترّقت الآية إلى مرتبة أعلى من ذلك وحثّت على إقدام الدائن على خطوة إنسانيّة كبيرة فيتنازل عن دينه للمدين العاجز([70])، إذ يقول الله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ۚ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة، 280).

٤. النَّفقة الواجبة:

{لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } (الطلاق، 7).

أوجب القرآن النفقة على الزوجة والأولاد، فعليه أن يسكنهم ويكسوهم الملابس المناسبة لحالهم، يقول تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ} (البقرة، 233)، ويقول تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ} (النساء، 4)، وقد أوجب النفقة على الزوجة حتى بعد تطليقها ما لم تتزوَّج بعلاً بعده، بل أمر ألّا يضارّ زوجه بأن يخيّرها بين أن يأخذ منها ولدها أو تُسقط نفقتها، بل أوجب لها نفقة الإرضاع لو أرادت ذلك، يقول تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ۚ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ۖ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ ۖ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَىٰ} (الطلاق، 6) وأوجب النفقة على الوالدين، يقول تعال: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} (الإسراء، 23)، فالنفقة على الوالدين من الإحسان لهما([71])، وكذلك العائلة وحفظ استقرارها الماليّ والاقتصاديّ، وحفاظاً على العلاقات الاجتماعيّة السليمة، وتجنيب أفرادها طلب المال من يد الناس، وتأمين حياتهم ومتطلباتهم([72]).

٥. الكفارات الماليّة:

أوجب القرآن الكفّارة على العبد لكي يستر بها مساءة المعصية كحنث اليمين والظهار وقتل الخطأ([73])، والكلام هنا عن موردين من موارد الكفّارة، وهما الإطعام والكسوة، لتعلّقهما بالجانب الماليّ:

يقول تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ ۖ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ۖ} (المائدة، 89)، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۚ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَاماً} (المائدة، 95)، ويقول تعالى: {أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ} (البقرة، 184)، ويقول تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۖ فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} (المجادلة، 4).

اشترطت الآيات أن يطعم المكفِّر من أوسط ما يؤكل أهله، فلا يطعم بالسيء الدنيء فيسيء إلى المساكين، ولا يطعم بالفاحش الغالي فيورث الحسرة والحسد في قلوب المساكين.

أو أن يكسو المساكين بأدنى ما يستر عورته -الثوب والسروال-، وما دام الحدّ الأوسط قد روعي في الإطعام فلا بدَّ من أن يراعى في الكساء أيضاً([74]).

٦. الإرث:

تقدّم الكلام عن ما ينفقه الإنسان في حياته، ويمكن الكلام عن الإرث بصفته شيئاً ممّا ينفق الإنسان بعد موته، وفي الكلام عن الإرث يقال: كان الإرث قبل الإسلام لعبة تلعب بها أيدي الأهواء والهمجيّة([75]).

ثمّ أتى الإسلام وبيّن أهمّيّة الفرائض وأحكام المواريث، وأعاد ترتيب مسألة الإرث، وسنّ حكمه على الفطرة والحكمة، وبناه بناءً يخدم العلاقات الاقتصاديّة الاجتماعيّة، تعزيزاً وترسيخاً لاستقرار المجتمع، وأمن كلّ الأفراد على أنفسها وأموالها، يقول تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۚ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ۚ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ ۚ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ۚ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۗ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ۚ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ ۚ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۚ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ ۚ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم ۚ مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۗ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ ۚ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ۚ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ } (النساء، 11-12)، فألغى الإسلام ما كان قبله وحصر الإرث على الزوجيّة والأصول والفروع (النسب والسبب والولاء)، من دون تخصيص بالقوّة وحمل السلاح([76]).

ونهى عن عدّ النساء من ضمن التركة، فآمنهنّ على أنفسهنّ من أن يصرن إماءً بموت أزواجهنّ([77])، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً ۖ} (النساء، 19). ونسخ ما كان في أوّل الإسلام من إرث المهاجرين والمتآخين([78])، يقول تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَٰئِكَ مِنكُمْ ۚ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الأنفال، 75).

ولأنَّ القرآن يحفظ حقوق الجميع اشترط توزيع أسهم التركة بعد تقديم ثلاثة أمور؛ وهي حقّ الميّت في نفسه؛ فيؤمّن ما يحتاج إليه الميّت لتجهيزه ودفنه؛ وحقّ الدُّيّان؛ فتؤدَّى ديونه، سواء كانت ديوناً للناس، أو ديوناً لله تعالى من الحجّ والزكاة والخمس والنذورات، وحقّ الميّت فيما أوصى؛ فتُنفّذ وصيّته من ثلث ما يفضل بعد ذلك([79]).

٧. الوصيّة:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ ۚ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۙ وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الْآثِمِينَ} (المائدة، 106).

وإكمالاً للكلام عن إنفاق الإنسان بعد موته والإرث يأتي الكلام عن الوصية، وقد تقدّم أنّ القرآن قد وزع تركة الميّت حسب أسهم ونسب معيّنة على عدد محدود من الأقارب، والحال إمكان وجود بعضهم أحوج من بعضهم الآخر، أو وجود من هو أحوج من الأهل والأقرباء، ولكن لا سهم مخصّص له في قانون الإرث، أو تكون على الميّت ديون أو أمانات لا بدَّ من حفظ حقوق أصحابها، أو أن يريد الميّت ما يُدخل عليه الثواب بعد مماته، وغيرها من أوجه البرّ وإنفاق المال بالحلال، من هنا أفرد الإسلام قانون الوصية عن قانون الإرث العامّ، ولاحظ فيها الجانبين الماديّ والاجتماعيّ، وحثّ عليها أيّما حثّ، بل أوجبها في إثبات الديون والأمانات وحفظ حقوق أصحابها([80])، حتى أنه رُوي عن رسول اللهe: >مَا يَنْبَغِي لِامْرِئٍ مُسْلِمٍ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَةً إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ تَحْتَ رَأْسِهِ<([81])، وعنهe: >مَنْ مَاتَ بِغَيْرِ وَصِيَّةٍ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً<([82]).

وقد أحاط الإسلام الوصية بشروط وأحكام وآداب، فأمر بأن تكون الوصية بالمعروف، يقول تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} (البقرة، 180)، فينبغي أن تكون موافقة للعقل من كلِّ جهة، والمعروف هنا على نحوين؛ النحو الأوَّل أن يُنصف الورثة؛ فتكون متناسبة في توزيعها، حتى لا تؤدِّي إلى النزاع والخلاف والانحراف عن الحقِّ والعدالة، فقد رُوي أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ تُوُفِّيَ وَلَهُ صِبْيَةٌ صِغَارٌ وَلَهُ سِتَّةٌ مِنَ اَلرَّقِيقِ فَأَعْتَقَهُمْ عِنْدَ مَوْتِهِ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ فَأُتِيَ اَلنَّبِيُّe فَأُخْبِرَ فَقَالَ: >مَا صَنَعْتُمْ بِصَاحِبِكُمْ؟< قَالُوا: دَفَنَّاهُ. قَالَ: >لَوْ عَلِمْتُ مَا دَفَنْتُهُ مَعَ أَهْلِ الإِسْلاَمِ؛ تَرَكَ وُلْدَهُ يَتَكَفَّفُونَ اَلنَّاسَ<([83]).

وكذا تكون متناسبة في مقدارها وهو النحو الثاني فلا تتجاوز الوصية ثلث التركة([84])، وقد رُوي عن أبي عبداللهg في قوله تعالى: {فَمَنْ خٰافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاٰ إِثْمَ عَلَيْهِ} قال: >يَعْنِي إِذَا اِعْتَدَى فِي الوَصِيَّةِ إِذَا زَادَ عَلَى اَلثُّلُثِ<([85])، ورُوي عن الإمام الباقرg أنّه قال: >مَنْ عَدَلَ فِي وَصِيَّتِهِ كَانَ كَمَنْ تَصَدَّقَ بِهَا فِي حَيَاتِهِ<([86]). وأمر كذلك بتعاهد الوصية وتعديلها ما دام على قيد الحياة بما يناسب المصالح المرتبطة بالوصية، وتلافي ما كان فيها من تقصير([87]).

فإذا جمعت الوصية الخصائص المذكورة صارت محترمة ومقدّسة عن الشارع، حتى حرَّم القرآن التعديل عليها بعد موت الموصي، سواء كان من الوصيّ على تنفيذ الوصية أو من غيره، فقال تعالى: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (البقرة، 181)، ولا يظنّ المتلاعبون أنّ الله غافل عمَّا يفعلون، فإنّ الله سميع عليم([88]).

ولأنَّ القرآن يحفظ حقوق الجميع -كما تقدَّم مراراً- استثنى مواردَ يمكن للوصيّ أو الحاكم الشرعيّ فيها التعديل على بنود الوصيّة، فيقول تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(البقرة، 182)، وهذه الموارد مرتبطة بالوصيّة إذا دُوِّنت بشكلٍ غير سليم عمداً أو خطراً أو سهواً من الموصي، فيجوز حينئذ التعديل على الوصية، وهذه الموارد هي كما يلي:

* إذا تعلّقت الوصيّة بأكثر من ثلث التركة.

* إذا كان يلزم من أداء الوصيّة الظلم والإثم، كما إذا كان مورد الوصيّة إعانة مراكز الفساد، أو ترك واجب من الواجبات.

* إذا لزم من أداء الوصيّة حدوث النزاع والفساد وسفك الدماء، وهنا لا يختصّ الوصيّ بالتغيير، بل لا بدَّ من أن يكون التعديل تحت نظر الحاكم الشرعيّ وإشرافه([89]).

الآلية السادسة: بيان صور الإنفاق غير السليم ومنعها

تقدّمت صور الإنفاق التي تكون سليمة في أصلها، وتوجد صور من الإنفاق سقيمة غير سليمة، فكان لا بدَّ من بيانها للابتعاد عنها، حتى لا تتضرّر العلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، ويزول الأمن منها، وهنا صورتين منها:

١. الإسراف والتبذير:

الإنفاق بمعناه العامّ أحد ضروريّات الحياة، وقد ذكر القرآن دستوراً تنظيماً للإنفاق، ففي الحين الذي نهى عن البخل والإمساك في بعض الآيات نهى عن الإسراف والتبذير كذلك، حتّى عدّ الاعتدال في الإنفاق من صفات عباد الرحمن([90])، يقول تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} (الفرقان،63)، إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَاماً} (الفرقان، 67).

ووصل الأمر بالقرآن في مسألة التنفير من الإسراف أن بيَّن أنّ الله تعالى لا يحبّ المسرفين، فإنَّ الإنفاق بما يتجاوز الحدّ الذي يصلح للمعاش وبذل المال في غير موضعه يُعدّ من معاصي اللهa، فإذا وصل إلى هذا الحدّ فإنّ الله لا يحبّ ما فعل من الإسراف، يقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۚ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ۖ وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأنعام، 141)، ويقول تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف،31)، والقرآن لم يصرّح بلفظ الجلالة بل أضاف عدم الحبّ إلى الضمير {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}، وذلك إشارة منه إلى البعد عن الله تعالى، وهذا خلاف ما تقدَّم من إضافة جزاء المنفقين إلى نفسه تعالى في قوله تعالى: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} (البقرة، 274)، كما تقدّم ذكره عند الكلام عن الإنفاق في سبيل الله تعالى([91]).

ووصل بالقرآن التعبير بأنّ المبذرين إخوان الشياطين، وذلك تشديداً في النهي عن التبذير، يقول تعالى: {..وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} (الإسراء، 26-27)، فكأنَّ المبذّر يكون ملازماً لشيطانه، والشيطان ملازماً له حتى كانا كالأخوَين، وإذا كان الشيطان آخاه فإنّ الشيطان كفورٌ يكفر بنعم الله ويصرف ما آتاه من قوّة واستطاعة في سبيل إغواء الناس {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص، 82)، وكذا المبذّر فإنّه يكفر بما أنعم الله به عليه ويصرفه في غير موضعه حتّى يضيّعه، فصارت أعمالهما متناسقة كالإخوان([92]).

ومؤدّى البخل والإسراف واحد فينتهي البخيل والمسرف في النهاية إلى أن يقتّر على نفسه وعلى عائلته، وعلى الناس المستحقّة للإنفاق، يقول تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} (الإسراء، 29)، فينتهي إلى الحسرة وتلومه الناس على ما أسرف وانتهى إليه من الفقر([93]).

٢. الرشوة:

ابتلي البشر منذ العصور القديمة بمن يحاول تجاوز القوانين الإلهيّة والوضعيّة، ومن الأوبئة الاجتماعيّة التي يستخدمها هؤلاء هي الرشوة، والرشوة من الموانع الكبيرة لإقامة العدالة الاجتماعيّة، وجرّ القوانين لصالح ملّاك الأموال، فيأكلون أموال الضعفاء والأتقياء الذين يتّقون أن يحصلوا شيئاً بالخداع ولو كانت أموالهم وحقوقهم، فإذا كان الضعفاء يلوذون بالقوانين لحمايتهم والراشين والمرتشين يلعبون بالقوانين لم يملك الضعفاء ما يحميهم ويحمي أموالهم وحقوقهم ومصالحهم، فيتفتّت الكيان الاجتماعيّ، ويتفشى الظلم والفساد والتمييز والطبقية بين أفراد المجتمع الواحد.

ومن هنا شدّد الإسلام في مسألة الرشوة، سواء على الدافع أو متلّقيها، وأدانها وحرّمها، يقول تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة، 188)، وقد بيّنت الآية مصداقاً من مصاديق الرشوة، فيعطي الحاكم شيئاً من المال حتى يحكم له بالمال المتنازع عليه فيأكل أموال غيره بالباطل([94]).

ولمّا شدد الإسلام على الرشوة حاول الراشون الالتفاف على هذا الحكم الإلهيّ والعقلائيّ فغيّروا اسمها إلى هدية ومساعدة وغيرها من الأوهام التي يتوهمون، ولا تغيّر شيئاً من ماهية هذا العمل المشين شيئاً، وقد روي أنّ الأشعث بن قيس قد تقاضى إلى أمير المؤمنينg، وقد بعث حلوى إلى بيت أمير المؤمنينg، وكأنّه أراد استعطافه وجلب رضاه نحوه، يقول أمير المؤمنينg: >طَارِقٌ طَرَقَنَا بِمَلْفُوفَةٍ فِي وِعَائِهَا، وَمَعْجُونَةٍ شَنِئْتُهَا، كَأَنَّمَا عُجِنَتْ بِرِيقِ حَيَّةٍ أَوْ قَيْئِهَا، فَقُلْتُ: أَصِلَةٌ أَمْ زَكَاةٌ أَمْ صَدَقَةٌ؟ فَذَلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ! فَقَالَ: لاَ ذَا وَلاَ ذَاكَ، وَلَكِنَّهَا هَدِيَّةٌ. فَقُلْتُ: هَبِلَتْكَ الْهَبُولُ! أَعَنْ دِينِ اللَّهِ أَتَيْتَنِي لِتَخْدَعَنِي‌؟ أَمُخْتَبِطٌ أَنْتَ أَمْ ذُو جِنَّةٍ أَمْ تَهْجُرُ؟ وَاللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلاَكِهَا عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ، وَإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا، مَا لِعَلِيٍّ وَلِنَعِيمٍ يَفْنَى، وَلَذَّةٍ لاَ تَبْقَى، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ، وَقُبْحِ الزَّلَلِ، وَبِهِ نَسْتَعِينُ<([95]).

فكان جواب الإمامg صارماً قاطعاً، وما ذلك إلّا لعظم ما أقدم عليه، وعظم تبعاته وآثاره. وقد أدان الإسلام الرَّشوة بجميع أشكالها الظاهرة والخفيّة، فهذا أمير المؤمنين يقرِّع عامله على البصرة عثمان بن حنيف، بسبب أنّه قبل دعوة على وليمة، وذلك هروباً ممّا قد يُحسب عليه ولو مستقبلاً فتكون كالرشوة وإن لم يعتبرها حنيف كذلك([96])، بل إنّ الإسلام بالغ في صيانة القضاة حتى منعهم من الشراء من السوق بأنفسهم، حتى لا يستميلهم الباعة بتقليل الثمن أو زيادة الكيل أو ما أشبه، فيتأثَّر القاضي ولو مستقبلاً إذا تقاضى عنده ذلك البائع الراشي([97]).

نتائج البحث

١. تظهر دقّة القرآن في حفظ حقوق الجميع، كما في ضمان الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، بل حتى المعتدي منهم، كما في ردّ رؤوس أموال المرابين مثلا.

٢. إيجاب الإنصاف لنوع الإنسان، والحثّ على الإحسان خصوصاً للمؤمنين.

٣. آليّات تحقيق الأمن ناظرة إلى تحسين جودة حياته-كما الأسس-، وناظرة إلى استقراره النفسيّ، وتحسين جودة علاقاته الاجتماعيّة مع الآخرين.

٤. عمل القرآن على الوقاية من الأخطار المحدقة بالأمن الاجتماعيّ، وسبل رفع آثارها لو وقعت.

والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على محمَّدٍ وآلِه الطيِّبين الطَّاهرين.


([1]) انظر: أسس الأمن الاجتماعيّ في القرآن الكريم، مجلَّة رسالة القلم، العدد المزدوج ٧٥-٧٦.

([2]) انظر: التفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية، ج٥، ص١٣٢.

([3]) انظر: مواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٣، ص١٠١.

([4]) الاستثناء المنقطع: ما لم يكن فيه المستثنى بعضاً من المستثنى منه؛ نحو حضر الضيوف إلّا سيّاراتهم-اكتمل الطلّاب إلّا الكتب. ومثل قوله تعالى عن أهل الجنّة: {لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلَاماً}(مريم: ٦٢)، فاللغو هو: رديء الكلام وقبيحه، والسلام ليس بعضاً منه. وكذلك قوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً ٢٥ إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً}(الواقعة: ٢٥-٢٦). (النحو الوافي، عبّاس حسن، ج٣، ص٢٩٥).

([5]) انظر: تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٣، ص٢٠٠.

([6]) انظر: تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٣، ص٢٠٢.

([7]) انظر: مواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٣، ص٩٨. والميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٥، ص٥٢.

([8]) انظر: تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٢، ص٥. والتفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية، ج١، ص٢٩١.

([9]) انظر: الميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٥، ص١٥٩. وتفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٣، ص٥٧٣.

([10]) انظر: مواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج١٠، ص٢٦٧. والميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٥، ص١٦١.

([11]) بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقيّ المجلسيّ،ج٧٠، ص٣٧٠.

([12]) انظر: تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٥، ص١١٥. وج١١، ص٤٥٠.

([13]) انظر: تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٨، ص٤٧١.

([14]) انظر: الميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٢٠، ص٢٣٠.

([15]) انظر: الميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج١٣، ص٩١. وتفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٢٠، ص١٨.

([16]) انظر: التفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية، ج٣، ص٥٥. ومواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج١١، ص٢٢٠.

([17]) الدينار الشرعيّ: ذهب مسكوك، وزنه مثقال شرعي أو ثلاثة أرباع المثقال الصيرفيّ، بما يعادل 68.5 حبّة شعير، أي حوالي 4.250 غراماً من الذهب. (انظر: الأوزان والمقادير، العامليّ البيّاضيّ، إبراهيم سليمان، ص٥١. ودروس تمهيديّة في الفقه الاستدلاليّ على الفقه الجعفريّ، الإيروانيّ، الشيخ محمّد باقر، ج٣، ص٣٣٨).

([18]) انظر: جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، صاحب الجواهر محمّد حسن بن باقر النجفيّ، ج٤١، ص٤٧٦ إلى ٥٥٣.

([19]) انظر: تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٩، ص٦٩٨. والتفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية، ج٣، ص٥٤.

([20]) انظر: مواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٨، ص٣٢٦.

([21]) انظر: مواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٢، ص٤٧٤.

([22]) انظر: مواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٨، ص٣٢٦. وتفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٣، ص٢٨٣. والتفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية، ج٢، ص٣٥٥.

([23]) انظر: الميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج١٥، ص١١. وتفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج١٠، ص٤٢٢.

([24]) انظر: التفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية، ج٢، ص٢٤٦. وتفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٨، ص٤٦٩.

([25]) انظر: التفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية، ج٣، ص٢٨٤. والميزان، ٧، ص٣٧٥. والميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج١٣، ص٩١.

([26]) انظر: تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٣، ص٨٤. وج٣، ص١٢١. والتفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية، ج٢، ص٢٥٩. ومواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٧، ص٢٦٠.

([27]) انظر: مواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٧، ص٣١٠.

([28]) انظر: مواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٧، ص٢٦٨. وتفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٣، ص١١٠. وج٨، ص٤٦٩. والتفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية، ج٢، ص٢٥٦.

([29]) انظر: تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٨، ٤٦٩. ومواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٧، ص٢٦٨.

([30]) انظر: الميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٤، ص١٧٢.

([31]) انظر: الميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٤، ص١٧٢. وتفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٢، ص٣٣٦.

([32]) انظر: تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٢، ص٣٤٨.

([33]) انظر: الميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٢، ص٤٠٨. والتفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية، ج١، ص٤٣٤. ومواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٤، ص٤١٩.

([34]) انظر: تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٢، ص٣٣٦.

([35]) القمّيّ، عليّ بن إبراهيم، تفسير القمّيّ، ج١، ص٩٣.

([36]) انظر: مواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٤، ص٤١٧. وتفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٢، ص٣٣٦.

([37]) انظر: الميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٢، ٤١٨. والتفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية، ج١، ص٤٣٧. مواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٤، ص٤٢٥.

([38]) انظر: الميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٢، ص٤٢٢. والتفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية، ج١، ص٤٣٨. مواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٤، ص٤٢٨. وتفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٢، ص٣٤٥.

([39]) انظر: الميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٢، ص٤٢٢. والتفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية، ج١، ص٤٣٨. مواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٤، ص٤٣٠. وتفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٢، ص٣٤٦.

([40]) انظر: تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٢، ص٣٨٣. وص٢٩٣. وج١٨، ص٣٦٦. والميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج١٩، ص٢٩١.

([41]) مواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٤، ص٣٤٨.

([42]) انظر: مواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٤، ص٣٥٠. وتفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٢، ص٣٨٢.

([43]) انظر: تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٢، ص٣٨٧.

([44]) انظر: مواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٤، ص٣٨٩.

([45]) انظر: مواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٤، ص٣٩٠.

([46]) انظر: مواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٤، ص٣٨٨، والميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٢، ص٣٨٨. وتفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٢، ص٢٩٥. والتفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية، ج١، ص٤١٣.

([47]) انظر: الميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٢، ص٣٩٥.

([48]) انظر: مواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٤، ص٣٩١. والميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٢، ص٣٨٩. والتفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية، ج١، ص٤١٥. مواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٤، ص٣٥٦.

([49]) تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٢، ص٢٩٨.

([50]) انظر: الميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٢، ص٣٩٠.

([51]) انظر: الميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٢، ص٣٩٣.

([52]) انظر: الميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٢، ص٣٩٩.

([53]) انظر: مواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٤، ص٣٩٤. والميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٢، ص٣٩٧.

([54]) انظر: الميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٢، ص٤٠٠. وتفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٢، ص٣٣٣. التفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية، ج١، ص٤٢٨. مواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٤، ص٣٨٦.

([55]) انظر: مواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٤، ص٣٩١. والميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٢، ص٣٨٩.

([56]) انظر: الميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٢، ص٣٨٩.

([57]) انظر: الميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٢، ص٣٩٢.

([58]) انظر: الميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٢، ص٣٩٦.

([59]) انظر: الميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٢، ص٣٩٣، ج٢، ص٣١٢. التفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية، ج١، ص٤٢٠. مواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٤، ص٣٦٧. ومواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٤، ص٣٦٨.

([60]) نهج البلاغة، ص٥١٣.

([61]) من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق أبو جعفر محمّد بن بابويه القمّيّ، ج٤، ص٣٦٧.

([62]) انظر: تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٦، ص٩٦.

([63]) من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق أبو جعفر محمّد بن بابويه القمّيّ، ج٢، ص٧.

([64]) انظر: الميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٥، ص٤٣١.

([65]) انظر: تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٢، ص٣٥٢، وص٣٥٦. الميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٢، ص٤٣٥. ومواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٤، ص٤٦٠، و٤٦٢، وص٤٦٤.

([66]) المثليّ: ما كانت أفراده متماثلة بحسب النوع أو الصنف، كالنقود والحبوب، والقيميّ: ما كانت أفراده غير متماثلة بحسب النوع أو الصنف، كالحيوان والدور. (مصباح الفقاهة، السيّد أبو القاسم الخوئيّ، ج٢، ص٤٢٦).

([67]) انظر: التفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية، ج١، ص٤٤٢. وتفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٢، ص٣٥٢.

([68]) انظر: تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٢، ص٣٥٢. والتفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية، ج١، ص٤٤٢.

([69]) انظر: تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٢، ص٣٥٦.

([70]) انظر: تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٢، ص٣٤٧. والميزان: ج٢، ٤٢٣. والتفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية، ج١، ص٤٣٨. ومواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٤، ص٤٣٠.

([71]) انظر: تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٨، ص٤٤٢.

([72])انظر: الميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٤، ص٣٤٠. وص٣٤٣. ومركز الأئمّة الأطهار، موسوعة أحكام الأطفال وأدلّتها، ج١، ص٣٨٨.

([73]) انظر: الميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٦، ص١١١.

([74]) انظر: تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٤، ص١٣٤. والتفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية، ج٣، ص١٢٠.

([75]) انظر: الميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٤، ص٢٥٤. وتفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٣، ص١٦٠. التفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية، ج٢، ص٢٨٠. ومواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٧، ص٣٩٦.

([76]) انظر: التفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية، ج٢، ص٢٦٣. والميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٢، ص٢٢٨، وج٤، ص٢٢٣. ومواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٧، ص٣٥٥.

([77]) انظر: التفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية، ج٢، ص٢٦٣. والميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٢، ص٢٢٨، وج٤، ص٢٢٣. ومواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٧، ص٣٥٥.

([78]) انظر: التفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية، ج٢، ص٢٦٣. والميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٢، ص٢٢٨، وج٤، ص٢٢٣. ومواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٧، ص٣٥٥.

([79]) انظر: التفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية، ج٢، ص٢٦٦. ومواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٧، ص٣٣٩.

([80]) انظر: تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج١، ص٥١٤. ومواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٢، ص٣٣٠. والميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٤، ص٢٣٣.

([81]) المقنعة، الشيخ المفيد أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان، ج١، ص٦٦٦.

([82]) المقنعة، الشيخ المفيد أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان، ج١، ص٦٦٦.

([83]) من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق أبو جعفر محمّد بن بابويه القمّيّ، ج٤، ص١٨٦.

([84]) انظر: تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج١، ص٥١٢، وص٥١٤. ومواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٢، ص٣٣٠. والميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٤، ص٢٣٣.

([85]) الشيخ الصدوق، أبو جعفر محمّد بن عليّ ابن بابويه القمّيّ، علل الشرائع، ج٢، ص٥٦٧.

([86]) الكافي، محمّد بن يعقوب الكلينيّ، ج٧، ص٥٨.

([87]) انظر: تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج١، ص٥١٦.

([88]) انظر: تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج١، ص٥١٢. ومواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٢، ص٣٣٢.

([89]) انظر: تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج١، ص٥١٣. ومواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٢، ص٣٣٣.

([90]) انظر: تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج١١، ص٣٠٦. وص٣٠٨. والتفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية، ج٥، ص٤٨٢.

([91]) انظر: الميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج٣، ص٢٦٤. وتفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٤، ص٤٨٤. ج٥، ص٢٢. والتفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية، ج٣، ص٢٧٣.

([92]) انظر: الميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج١٣، ص٨١.

([93]) انظر: تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٨، ص٤٥٤. والميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، ج١٣، ص٨٣.

([94]) انظر: تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٢، ص٧. والتفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية، ج١، ص٢٩١. ومواهب الرحمن في تفسير القرآن، السيّد عبد الأعلى السبزواريّ، ج٣، ص٩١.

([95]) نهج البلاغة، ص٣٤٦.

([96]) نهج البلاغة، ص٤١٦.

([97]) انظر: تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، ج٢، ص٨.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا