مع الحسين أبداً

مع الحسين أبداً

الملخّص:

تعرّض الكاتب في هذه المقالة إلى الحديث عن شعار علماء البحرين لموسم عاشوراء عام 1446هـ، وهو (مع الحسينg أبداً)، وبيّن معنى المعيّة للحسينg، وكيف يكون الإنسان المؤمن معه في أهدافه من ثورته التي أهمّها الإصلاح، وكيف يكون معه في إحياء أمره.

 

المقدّمة:

مع الحسين أبداً، شعار أطلقه علماء البحرين للعام الهجري 1446هـ، وهو شعار يختزل كثيراً من القيم والمبادئ والأهداف الحسينية، والسطور القليلة الماثلة بين يدَيْ القارئ ما هي إلا نحوٌ من التفكير بصوت مرتفع لما جال في الذهن الفاتر مستجيزاً منه العذر على التطفّل، راجياً أن أكون قد وُفِّقْت في بيان المراد.

تمهيد:

ما المقصود بالمعيّة مع الحسينg وما هي مجالاتها؟

من خلال الرجوع إلى النصوص الشرعية وكلمات اللغويين يمكننا اقتناص معنيَيْن:

المعنى الأول: المصاحبة والإجتماع

 وهو المستفاد من كلمات اللغويين، أنها تأتي بمعنى المصاحبة والاجتماع([1])، فهي تدلّ على المصاحبة والاجتماع الزماني أو المكاني، كما قال تعالى:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }(الحديد: 4)، ومن الواضح أنّ المعنى الحقيقي غير مقصود في المقام؛ للفاصل الزمانيّ بيننا وبينهg، ولهذا يكون المراد منها المعيّة بمعناها المجازي وهي المعيّة الفكرية والروحية والقلبية والسلوكية والسياسية والاجتماعية.

فالمستفاد من قوله الإمامg في زيارة عاشوراء: >أن يجعلني معكم في الدنيا والآخرة<، المعيّة المطلقة الشاملة لجميع الأبعاد الفكرية والعقدية والسلوكية والروحية والقلبية، ولا يكفي أحدها عن الآخر، بل يجب أن أكون مصاحباً له فيها، وأعايشها فكراً ومنهجاً وسلوكاً.

وكذلك المعيّة مطلقة بلحاظ الزمان والحالات واختلاف الظروف، وليست معيّةً في بُعد أو ظرف دون آخر.

فمن كان مع الحسينg في فكره فقط دون سلوكه وقلبه وعمله - كمن يعتقد بما يعتقد به الحسينg من دون سلوك وعمل أو ميل قلبي للحسينg- لم يكن مع الحسينg، فكم هم أولئك الذين كانوا يعتقدون بما يعتقده الحسينg ولكنهم لم ينصروه وانحرفوا عنه؟! وأبرز مثال لذلك هو عبدالله بن الحرّ، وهو من الشخصيات الكوفية المعروفة، حيث أرسل إليه الإمام الحسينg أحد أنصاره وهو الحجّاج بن مسروق الجعفي الذي دخل عليه مبشِّراً بقوله: "قد أهدى الله إليك كرامة، هذا الحسين بن علي يدعوك إلى نصرته، فإن قاتلتَ بين يديه أُجرت، وإن متَّ فقد استشهدت"، وإذا به يجيب بصراحة: "ما خرجت من الكوفة إلا مخافة أن يدخلها الحسينg وأنا فيها لا أنصره".

ولما عاد الرسول وأخبره مقولة ابن الحرّ، توجّه الإمام الحسينg إليه قائلاً: >يا بن الحرّ، فاعلم أنّ الله عزّ وجلّ مؤاخذك بما كسبت وأسلفت من الذنوب في الأيام الخالية، وأنا أدعوك في وقتي هذا إلى توبةٍ تغسل بها ما عليك من ذنوب،... أدعوك إلى نصرتنا أهل البيت<.

فأجابه: "والله إني لأعلم أنّ من شايعك كان السعيد في الآخرة، ولكن ما عسى أن أغني عنك، ولم أخلِّف لك بالكوفة ناصراً، فأنشدك بالله أن تحملني على هذه الخطّة، فإنَّ نفسي لم تسمح بعدُ بالموت، ولكن فرسي هذه المُلحقة، والله ما طلبت عليها شيئاً قطّ إلا لحقته، ولا طلبني أحدٌ وأنا عليها إلا سبقته، فخذها فهي لك". فهو يعلم مَن يكون الحسينg، ويعتقد بما يعتقده، ولكن الازوداجية بين الاعتقاد والسلوك حالت بين اللحوق بركب الحسينg، فالحسينg لا يريد فرساً، بل يريد فارساً، يكون معه قلباً وقالباً ومجسِّداً للمعيّة مع الحسينg.

وكذلك من كان معه بقلبه دون فكره وسلوكه -كمن أحبّه من دون أن ينهض لنصرته أو تحقيق أهدافه- كأولئك الذين عبّر عنهم الفرزدق لمّا التقى بالإمام الحسينg وسأله عن أهل الكوفة فقال: قلوبهم معك وسيوفهم عليك. 

وبعبارة أوضح: يقال بأنّ هذه المعيّة تتوقّف على اجتماع أمور أربعة:

الأول: المعيّة القلبية؛ بأن يكون تعلّقي القلبي بالحسينg كأبي الفضل العباس والأكبر والقاسم وحبيبi الذين قد ملأ حب الحسينg كلّ كيانهم وحياتهم، وهذا التعلّق تعلّق إيجابي يجعلني ذاكراً للحسينg وأهدافه ومنهجه وقيمه. 

الثاني: المعيّة العقلية الفكرية، فلا بدّ أن تكون منظومتي الفكرية والاعتقادية منسجمةً مع فكر الحسينg وعقيدته ومنهجه. 

الثالث: المعيّة السلوكية والعملية، وبهذا يجسّد أخلاق الحسينg وسلوكياته. 

الرابع: المعية الحركية، وهي ذات طابع اجتماعي، فلا يُكتفَى بما تقدّم، بل يحتاج أن يساهم في نهوض مجتمعه من خلال مشاركته الفاعلة والإيجابية في البرامج والفعاليات المختلفة الهادفة.

والحاصل: أنّ هذه المعيّة تعلّقت بهذا العمل المشترك بيني وبين الحسينg، لذلك صار اجتماعاً في العمل والسلوك والاعتقاد، وصارت مصاحَبة مع الحسينg ومتعلّق المصاحَبة هو السلوك والعمل والمعتقد...إلخ. 

المعنى الثاني للمعية: الطاعة والالتزام والانقياد

وهذه المعيّة نجدها تكرّرت في نصوص عديدة كما في الزيارة الجامعة الكبيرة: >فمعكم معكم لا مع غيركم<، فالمعيّة تعني إظهار الولاية والتبعية والالتزام بمبادئ الأئمةi ونصرتهم في جميع الظروف من سرّاء أو ضرّاء.

وممّا يدلّ على ضرورة المعيّة بهذا المعنى ما دلّ على ضرورة اتّباع أهل البيتi والكون معهم، كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الْذِّيْنَ آمَنُوْا اتّقُوْا اللهَ وَكُونُوْا مَعَ الصَّادِقِيْنَ}(التوبة: 119)، حيث وردت كلمة مع في سياق الأمر مما يفيد لزوم المتابعة و الإطاعة، تقول لأهل البيت في الزيارة الجامعة الكبيرة: >فمعكم معكم لا مع عدوّكم<، وهذا الأمر -بالكون معهم- أمرٌ مطلق لم يقيّد بحالٍ دون حالٍ، ولا مجالٍ دون مجالٍ، مما يعني لزوم الكون معهم والطاعة لهم بنحو مطلق في جميع الأحوال.

وكقولهe: >إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً<، والتمسّك بهما يقتضي الكون معهما، وهذا أمر واضح.

والحاصل من هذا التمهيد: أنّ معنى قولهم: (مع الحسينg أبداً) يقتضي أولاً المعيّة المطلقة والشاملة لجميع أبعاد وجود الإنسان، وثانياً التسليم والطاعة والانقياد لهg.

وممّا تجدر الإشارة إليه في هذه الصفحات بيان نحوٍ من أنحاء المعيّة، وهي المعيّة مع الحسينg في أهدافه وإحياء أمره، لما لهذا البعد من الأهمية في زماننا الذي أوشك أن تلتبس فيه أهداف الحسينg على بعض الموالين، مما يؤدّي إلى تسطيح النظرة إلى أهدافه واستبدال مفاهيم حركته وإحياء أمره وإقامة شعائره بما لا ينسجم ومنهج هذه الحركة المباركة، فكلّ انحراف على مستوى السلوك الفردي والاجتماعي مرجعه إلى انحرافٍ على المستوى الفكري والثقافي، فنحتاج أولاً إلى إصلاح هذا البعد الفكري والثقافي الذي يشكّل الأساس في سلوك الإنسان، لكي يتحقّق بعد ذلك صلاح السلوك على المستوى الفردي والاجتماعي، فيقع الكلام في محورين:

المحور الأول: مع الحسين في أهدافه

والكلام في هذا المحور يقع في ثلاث نقاط:

النقطة الأولى: ما هو هدف الحسينg من ثورته المباركة؟

 تعدّدت النظريات التي تبيّن الهدف من ثورة سيد الشهداءg، ولكن أهمها نظريتان:

 الأولى: أنه خرج من أجل الشهادة، الثانية: أنه خرج من أجل إقامة الحكومة، ولكلٍّ من هذه النظريات شواهدها، ولكن يمكن القول بأنّ الهدف الأساس هو الإصلاح؛ لصريح ما ورد في رسالته إلى أخيه محمد بن الحنفية>إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي<([2])، وأما الشهادة والحكومة وغيرها مما يُذكَر كهدفٍ، ما هو إلا وسيلة لتحقيق ذلك الإصلاح، فهو خرج من مدينة جدّهe قاصداً مكة، ومنها إلى الكوفة، من أجل إقامة الحكومة، ولكنه لما انقلب أهل الكوفة والمسلمون عليه، ولم يعُد هذا الخيار صالحاً لتحقيق الإصلاح، عزم على الشهادة؛ لأنّ الإصلاح لا يتحقّق إلا بإراقة دمه الشريف وسبي أهل بيته، يقول ولي أمر المسلمين السيد الخامنئي -متّع الله الأمة بطول بقائه- تعليقاً على هذا المقطع: "أيْ يريد الثورة لأجل الإصلاح، لا للوصول إلى الحكم حتماً ولا للشهادة حتماً"([3]).

والشاهد عليه من كلام سيد الشهداءg: >اللهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنُرِيَ المعالم من دينك، ونُظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويُعمَل بفرائضك وسُننك وأحكامك<([4]).

والمراد من الإصلاح هو التصحيح والتقويم، وحقيقته رفع الموانع والمعوّقات التي تقف في طريق بلوغ الهدف والغاية، فالإصلاح تصحيح وتقويم ومعالجة للأخطاء والانحرافات، سواء كانت في البعد الثقافي أو الأخلاقي أو الفكري السياسي ونحو ذلك من الأبعاد التي يعيشها المسلمون.

والمعيار في صدق عنوان الإصلاح هو الدين وسيرة سيد المرسلينe وأهل بيتهi؛ لما ورد عنهg: >أريد أن آمر بالعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي<([5])، ولقولهg: >وقد علمتم أنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان، وتولّوا عن طاعة الله، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأني أحقّ بهذا الأمر<([6]).

فكلُّ إصلاحٍ وتصحيحُ انحرافٍ يتنافى مع الدين ولا ينسجم معه، يكون في واقعه إفساداً وإن تلبّس بثوبٍ إصلاحيّ.

ومن هنا يتضح لك أنه لكي يصدق على المؤمن أنه مع الحسينg في أهدافه وإصلاحه، أن يكون إصلاح النفس والمجتمع إصلاحاً منسجماً مع الدين ومع مبادئه وقيمه، بحيث تكون نتيجته رفعة الإسلام والمسلمين، لا تراجعه وتشويه صورته.

وكذلك يتضح أنّ هذا الإصلاح لا بدّ أن يكون إصلاحاً شاملاً لجميع الأبعاد الفكرية والأخلاقية والاجتماعية والثقافية وغيرها، وهذا بمقتضى ما تقدّم من كون المعيّة مع الحسينg معيّة مطلقة، وأنّ ما يريده سيد الشهداءg هو الإصلاح الشامل للأمة في جميع الأبعاد.

ومن أهمّ أنحاء الإصلاح التي نحتاج أن نستلهمها من ثورة الإمام الحسينg ونكون معه فيها، هو الإصلاح الثقافي، حيث إنّ سلوك الإنسان ما هو إلا ترجمة لمجموعة الأفكار والرؤى المخزونة لديه، فإذا كان مصدرها الإسلام كان السلوك سلوكاً إسلامياً، بخلاف ما لو لم تكن كذلك، كما لو تشكّلت ثقافة الإنسان من خليطٍ من الأفكار والقيم التي يبثّها أعداء الإسلام. وعليه فالإصلاح الثقافي مقدّمةٌ لإصلاح الواقع الخارجي للأمة، فكيف أكون مع الحسينg في إصلاحه الثقافي والفكري؟

النقطة الثانية: كيف أكون مع الحسينg في إصلاحه الثقافي؟

الثقافة في الاصطلاح مفهومٌ يطلق على مجموعة الأفكار والعقائد والقيم والرؤى والأعراف وأنماط السلوك التي توجّه الإنسان وتسيّره وتقدّم له المعايير التي على أساسها يتّخذ مواقفه وقراراته([7])،  فهي نتيجةٌ لائتلاف هذه الأمور، فإذا كان المصدر لكلّ هذه المجموعة هي المعارف الإسلامية النقية كانت الثقافة ثقافة إسلامية، وإذا كان المصدر لها غير ذلك صارت ثقافة التقاطية تجميعية غير نقيّة.

والمقصود من الإصلاح الثقافي -بناءً على ما تقدّم من معنى الإصلاح- هو تقويم وإزالة الأفكار الخاطئة والمسمومة والأعراف والعادات الدخيلة والمدسوسة، والقيم الساقطة، والتي تعدّ مانعاً من الرقيّ في سلّم الكمال الذي يريده الإسلام، وبعبارة موجزة: (هو الرجوع بالأمّة إلى الإسلام المحمدي الأصيل).

فالحسينg بإصلاحه يستهدف مقوّمات ثقافة الأمة وما تشكّلت منها، يريد بذلك إرجاع الأمّة إلى ثقافة الإسلام النقية، بعد أن تشوّهت واختلطت عليهم نتيجةً لانحراف الحكم الأموي عن خط الإسلام، ويكفيك أن تلقي نظرة عابرة لما يمارسه الحكم الأموي من دورٍ لطمس الثقافة الإسلامية؛ لترى ما كانت عليه الأمّة من تراجع وانحراف، بحيث يقف الإنسان متعجّباً، كيف لهذه الأمّة -التي لا زالت كلمات رسول اللهe تدوّي في أسماعهم- تجتمع على قتل ابنه وحبيب قلبه.

ما ذلك إلا للتضليل الممنهج لتعاليم الدين وقيمه ومعارفه وأفكاره ومعتقداته، الذي يهدف إلى إرجاع الأمة الإسلامية إلى ما كانت عليه قبل البعثة النبوية.

فيروّجون إلى عقيدة الجبر -التي تتنافى مع أصول العقيدة الإسلامية الحقّة- من أجل تبرير تسلّطهم على رقاب المسلمين، وتصفية كلّ من وقف في وجه مصالحهم، فهذا حِجْر بن عَدِي وأصحابه قد قتلهم معاوية بدم باردٍ، مبرّرين ذلك بأنّ هذا ما قضاه الله تعالى لهم وقدّره، فلا اعتراض عليه، وعلى المسلمين التسليم له بإطاعة بني أمية طاعةً مطلقةً وإن تعدّى حدود الله، مستندين  إلى نقولات وضعوها  على رسول اللهe،  فعن عوف بن مالك يقول: سمعت رسول اللهe  يقول: >خيار أئمتكم من تحبّونهم ويحبّونكم، وتصلّون عليهم ويصلّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا<([8] وغيرها من مظاهر الانحراف.

ناهيك عن ترويج المجون والغناء وشرب الخمور من دون رادعٍ بدعوى أنّ هذه سنّة رسول اللهe، وإشاعة ثقافة التمييز على أساس اللون أو القبيلة أو العرق أو غيرها، مخالفين بذلك صريح القرآن الكريم: {إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}(الحجرات: 13)، وسنّة رسول اللهe.

ولا يخفى ما في زماننا من انحرافٍ ثقافي نَجَم عن الابتعاد عن تعاليم الشريعة السمحاء، والاستئناس بما يمليه الغرب بسياساته الخبيثة، فدونك ما يجري على المستضعفين في بلاد الإسلام من قتلٍ للأطفال والنساء، وتشريد مئات الآلاف من العائلات، بحجّة أنّ الكيان المؤقّت يدافع عن نفسه، فله الحقّ في ذلك ولا حقّ لهم، فأيّ ثقافةٍ هذه التي تبتني على ازدواجية للمعايير والقيم، ناهيك عن انقلاب المفاهيم واختلاطها، فهذا الشذوذ الجنسي المستقبَح عقلاً وعقلاءً وفطرةً قد شُرِّعَت لترويجه القوانين، وسُخِّرَت من أجل إشاعته الحكومات.

من هنا نحتاج أن نكون مع الحسين g في إصلاحه الشامل، لا سيّما الإصلاح الفكري والثقافي، فكيف تعامل الإمام الحسينg مع الانحراف الثقافي والفكري في زمانه، وكيف لنا أن نكون معه في إصلاحه؟

المستفاد من كلمات سيد الشهداءg أنّ هناك علاجَيْن أساسيَّيْن أحدهما في طول الآخر:

العلاج الأول: جعل المرجعية الفكرية للإسلام 

وهذا إصلاحٌ من زاوية معرفية فكرية، وذلك من خلال الدّعوة إلى الحقّ والدفاع عنه، وبعبارة عصرية: قام بجهاد التبيين؛ حيث كان يصارع التيّار الانحرافي القائم ببيان الحقّ في الأمور والدّعوة إلى الحقّ والدفاع عنه، وكَشَف الضلال والزيف القائم ببيان الحجّة والدليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقام بحلقات الوعظ والإرشاد، ومن أمثلة ذلك:

التعريف بمكانة أهل البيتi وفضلهم، وأنهم عِدل القرآن الذين يجسّدون تعاليمه، وتُؤخَذ منهم معارف الإسلام وعقائده، فقد ورد في كتاب الاحتجاج أنّه قيل لمعاوية: "إنّ الناس قد رَمَوا أبصارهم إلى الحسينg، فلو قد أمرته يصعد المنبر ويخطب في الناس"، فطلب من الحسين ذلك على مضض، فقام الحسينg وقال: >نحن حزب الله الغالبون، وعترة رسول الله e الأقربون، وأهل بيته الطيبون، واحد الثقلين اللذين جعلنا رسول الله e ثاني كتاب الله تبارك وتعالى، الذي فيه تفصيل كل شئ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والمعوّل علينا في تفسيره، لا يبطينا تأويله، بل نتبع حقايقه، فأطيعونا فإنّ طاعتنا مفروضة، إذ كانت بطاعة الله ورسوله مقرونة، قال الله عز وجل: {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ} وقال: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاًوأحذّركم الإصغاء إلى هتوف الشيطان بكم، فإنّه لكم عدوّ مبين، فتكونوا كأوليائه الذين قال لهم: {لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْفتلقون للسيوف ضرباً، وللرّماح ورداً، وللعمد حطماً وللسهام غرضاً، ثم لا يُقبَل من نفسٍ إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً<. قال معاوية: "حسبك يا أبا عبد الله قد بلغت"([9]). فتجده في مجلس معاوية يبيّن الحقائق ويكشف الزيف والانحراف.

وكذلك احتجاجه على العلماء ودعوتهم إلى نصرة الحق، فقد ورد في تحف العقول أنه قام خطيباً في أهل العلم من الصحابة خاصّة والتابعين عامّة يحتجّ عليهم فيه ويدعوهم إلى نصرة الحقّ وفضح الزيف، وبعد أن ذكّرهم بجملة من آيات كتاب الله الكريم قال: >لقد خشيت عليكم أيها المتمنّون على الله! أن تحلّ بكم نقمة من نقماته، لأنكم بلغتم من كرامة الله منزلة فُضِّلتم بها، ومن يعرف بالله لا تكرمون، وأنتم بالله في عباده تكرمون، وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون، وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون - إلى أن قال- ذلك بأنّ مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سلبتم ذلك إلا بتفرّقكم عن الحقّ واختلافكم في الألسنة [السنة] بعد البيّنة الواضحة، ولو صبرتم على الأذى وتحمّلتم المؤونة في ذات الله، كانت أمور الله عليكم ترد، وعنكم تصدر، وإليكم ترجع، ولكنكم مكّنتم الظلمة من منزلتكم، وأسلمتم أمور الله في أيديهم، يعملون بالشبهات، ويسيرون في الشهوات، سلّطهم على ذلك فراركم من الموت، وإعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم، فأسلمتم الضّعفاء في أيديهم، فمن بين مستعبد مقهور، وبين مستضعف على معيشته مغلوب، يتقلّبون في الملك بآرائهم، ويستشعرون الخزي بأهوائهم، اقتداءً بالأشرار، وجرأةً على الجبّار، في كلّ بلد منهم على منبره خطيب مصقع، فالأرض لهم شاغرة، وأيديهم فيها مبسوطة، والناس لهم خول لا يدفعون يد لامس، فمن بين جبّار عنيد، وذي سطوة على الضّعفة شديد، مطاع لا يعرف المبدئ المعيد<([10]).

 فالحسينg على مستوى الكلمة، وعلى مستوى الموقف، قد مارس دور جهاد التبيين وبيان الحقائق.

العلاج الثاني: الشهادة 

وهذه الخطوة مترتّبةٌ على عدم فعالية الخطوة الأولى، فحيث لم يتمكّن من إصلاح الفساد الفكري والثقافي ببياناته المتنوّعة عزم على أن يستشهد من أجل الإسلام بفكره وثقافته الأصيلة، حيث اختصر الإمام الصادقg حركة الإصلاح الحسيني وأهدافها بقوله: >وقد بذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة<([11])،فالحسينg بذل نفسه من أجل أن يستنقذ فكر الأمة وثقافتها، ويخرجها من جهالتها القابعة فيها إلى نور العلم والمعرفة الحقة.

وإن شئت قلت: بالرّجوع إلى مجموع خطابات الحسينg التي تبيّن الهدف من خروجه، تجد أنها على طائفتين أساسيتين، أوّلها على أنه خرج من أجل الحكومة، وثانيتها ما دلّ على أنّ هدفه هو الشهادة، والجمع بينهما أنه خرج من أجل الإصلاح، وهذا تارة يتحقّق بامتثال الأمّة واتباعها لسبيل الحق وترك سبيل الباطل، وأخرى يتحقّق -الإصلاح- بشهادته، ولم يتحقّق هدفه الإصلاحي إلا بالطريق الثاني.

النقطة الثالثة: ما هي وظيفتي تجاه الانحراف الموجود في زماننا المعاصر؟

باعتباري مع الحسينg في هدفه الإصلاحي، فما هي وظيفتي بالنسبة لهذا الانحراف الموجود في زماننا المعاصر؟

يمكن استفادة جملة من الأمور من النصوص المتقدّمة في النقطة السابقة:

الأمر الأول: فهم الإسلام فهماً صحيحاً والرجوع إليه في كلّ صغيرة وكبيرة، من أجل تبيان الحقائق وفضح الزيف، وهذا ما أكّد عليه ولي أمر المسلمين (أطال الله في عمره) من ضرورة العمل بوظيفة جهاد التبيين في زماننا، حيث قال: "إنّ أغلب الأئمّةi لم يجاهدوا ويقاتلوا بالسيف، بل كان جهادُهم جهادَ التبيين والتنوير". وقال في موضع آخر: "إنّ كلّ شخصٍ اليوم -سواء أولئك الّذين لديهم تأثيرٌ كبير، أو المؤثِّرون بنحوٍ أقلّ، كالمدرسة والصّفّ والجامعة والوسط العُمّالي وغيره- مسؤولون، وإذا رأَوا تحريفًا في حقائقِ الإسلامِ والثّورةِ وثوابتهما فإنّ عليهم واجب التّبيين، ولا يجب السّكوت في هذا الموقع"([12]).

وبفهم الإسلام فهماً جيداً يكون المسلم في مأمنٍ من الانحراف الفكري والثقافي، بل السلوكي العملي، وبذلك يتحصّن من أن يكون مثل الخوارج الذين كانوا من أهل العبادة والتهجّد، لكنهم لم يفهموا الإسلام بشكل صحيح، اعتقدوا بأنّ الإسلام هو النطق بالشهادتين وأن الحكم لله تعالى وحده، وأنّ مرتكب الكبيرة كافر لا تقبل توبته، ولكن هذه المعرفة السطحية أدّت بهم إلى الانحراف عن القرآن الناطق، فبمجرّد أن رفع معاوية المصاحف على أسنّة الرماح تزلزلوا وامتنعوا عن محاربته.

الأمر الثاني: تجسيد الإسلام وتعاليمه على أرض الواقع، فالعلم يهتف بالعمل، والمعرفة من دون العمل تكون وبالاً على الإنسان.

 فالسلوك الخارجي تجسيد لثقافة الحسينg وكاشف عن المعيّة معه.

العمل في المؤسسات المجتمعيّة المختلفة مصداق بارز للمعيّة مع الحسينg في إصلاحه الثقافي والاجتماعي.

الأمر الثالث: تفعيل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتواصي بالحقّ والتواصي بالصبر.

فلكي أكون مع الحسينg في إصلاحه الثقافي -بمعنى أن أكون مصاحباً ومجتمعاً له في أهدافه وحركته الإصلاحية، بل متبعاً مطيعاً- عليّ أن أفهم الإسلام وأبلّغه بحسب استطاعتي، بل تجسيد تعاليمه وأحكامه خصوصاً تلك الأحكام المرتبطة بالمجتمع كفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

المحور الثاني: معيّة الحسينg في إحياء أمره

فمتى أكون مع الحسينg في إحياء أمره ومتى لا أكون كذلك؟ وما هو المعيار الذي على أساسه أكون مع الحسينg في إحياء أمره من مصيبته وأيام مولده، ومتى لا أكون كذلك؟

الضابط هو أن يكون إحيائي لأمر الحسينg إحياءً لأهدافه ومبادئه وقيمه وسلوكه العملي.

ولكي تتحقّق المعيّة لا بدّ أن يكون الإحياء إحياءً واعياً، يتّسم بالمعرفة والحكمة من تشريع هذا الإحياء، والسعي لتحقيقها على أرض الواقع.

فما هي مظاهر المعيّة مع الحسينg-وبذلك يتجلّى ما يقابلها من مظاهر تكشف عن كون الإحياء بعيداً عمّا يريده الحسينg-؟

المظهر الأول: الإحياء الواعي والهادف، ويقابله الإحياء الساذج الفارغ من أهداف الحسينg وقيمه ومبادئه، ويتحقّق هذا بأن يعيش المؤمنون -سواء القائمون على الإحياء والجمهور- أهداف الحسينg ومبادئه وقيمه، ملتفتين إلى أنّ هذا الإحياء تجسيد عملي لمعيّتهم مع الحسينg، فمن يكون كذلك يكون شريكاً في حركته ومعسكرهg.

 ومن أهداف الحسينg الوحدة بين المؤمنين، فلو كان الموكب، أو المضيف، أو الخطيب الفلاني، أو المأتم الفلاني، أو الشعيرة الفلانية تسبّب الاختلاف بين المؤمنين، فإنها تكون بمثابة السّهام التي نشبت في قلبه وبدنه الشريف.

فالمنبر الحسيني هو الأساس في إحياء أمر الحسينg، ولا غنى للمحبّ عن المنبر -وهذا لا يعني عدم أهمية بقية الفعاليات والبرامج الحسينية- لأنّه يشكل الجانب الإعلامي الخالد للقضية الحسينية، والذي يغذّي البُعدَيْن الفكري والعاطفي للمؤمن، وليس من الصحيح التركيز على البعد العاطفي -كما ينادي البعض- وتقديمه على البعد الفكري، ولا تقديم البعد الفكري على العاطفي، فعقول المؤمنين مستعدّة لاستلهام الدروس والعِبَر من عاشوراء، وقلوبهم متهيّئة للبكاء، وهذه فرصة يجب استثمارها من أجل تحقيق الغاية من إقامة هذه الشعائر.

وكذلك الحال في الموكب الحسيني الذي يحضره الكثير من شبابنا، فلا بدّ أن يكون الموكب موكباً واعياً، يعي الهدف من الموكب وهو إشعال الحماسة الحسينية في إطار الفكرة الحسينية الصحيحة والواعية، فالقصيدة الموكبيّة لا تقلّ أهمية عن الموضوع في المنبر الحسيني، ولا يصحّ قبول تمييع الموكب في مادته وهيئته بدعوى التجديد في الكلمات والألحان، بل لا بدّ أن يعيش المؤمن أنه في حالة مشاركة إمام زمانه في إقامة العزاء على جدهg، فكيف يُراد له أن يكون؟

ومما يؤسَف له أن يكون الترجيح بين المآتم على أساس نوعية الوجبات المقدّمة، وهذا تسطيح لمسألة الإطعام التي أكّد عليها الأئمةi، ويكفي استكشاف أهميتها من تصدّي الإمام زين العابدينg لإعداده، فقد روى المُحدِّث أحمد بن محمد بن خالد البرقي في كتاب المآكل من كتابه المحاسن ضمن باب -الإطعام في المأتم- بسنده عن عمر بن علي بن الحسينg أنّه قال: "لمَّا قُتِلَ الحسين بن عليٍ، لَبَسْنَ نساء بني هاشم السواد والمسوح، وكُنَّ لا يشتكيْنَ من حرٍّ ولا بَردٍ، وكان علي بن الحسينg يعمل لهنّ الطعام للمأتم"([13]) ، بل المدار على عنوان الإطعام، لا على نوعيته وجودته.

وكذلك المضيفات التي تقوم بتوزيع المأكولات والمشروبات يمكن أن تكون الخدمة فيها خدمة واعية؛ بأن يصاحب الإطعامُ بعضَ الأمور المعرفية من عرض بعض المواقف المنتخبة من بعض المسلسلات الهادفة والتي فيها فكرة تصل للمستمع في بضع دقائق، أو أن تعرض مقاطع لخطباء، أو منشورات، وغيرها من الأفكار.

المظهر الثاني: التركيز على المسائل الأساسية ذات الأولوية والأهمية، وتجنّب المسائل الفرعية والخلافية، بمعنى ما هو العلاج في حالات التزاحم بين البرامج والفعاليات المختلفة، والقاعدة هنا هي أن يُقدَّم الأهم على المهم، والأهم منها ما يغذّي البُعدَيْن العقلي والعاطفي، ويرتقي بمستوى فهم المؤمن للإسلام وللقرآن وللقضية الحسينية، وكذلك يرتقي بمستوى تطبيق ذلك على المستوى الفردي والاجتماعي.

المظهر الثالث: التقييم والتقويم للبرامج المختلفة من خلال الاستبانات العامة والمقابلات الشخصية من ذوي العقول الراجحة، وأن تُحدَّد البنود التقييمية على أساس مدى تحقيقها للأهداف، وليس على أساس القبول الشخصي، وبهذا يكون الإحياء فاعلاً لا انفعالياً.

الخاتمة: 

وفي الختام آمُل أن يكون شعار هذا العام (مع الحسين أبداً) شعاراً حاضراً في وجدان المؤمنين، يعايشونه في مفاصل حياتهم، منتصرين بذلك للحسينg، وممهّدين لحفيده الآخذ بثأره والمنتقم لدمه، جعلنا الله ممّن يكون معهمi. 


([1]) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، الفيومي، ج1، ص576.

([2]) بحار الأنوار، ج44، ص330.

([3]) إنسان بعمر250 سنة، ص214.

([4]) تحف العقول، ص239.

([5]) بحار الأنوار، ج44، ص330.

([6]) المصدر السابق، ص328.

([7]) الموسوعة الجامعة لمصطلحات الفكر العربي والإسلامي، ص804.

([8]) أحمد بن حنبل، مسند أحمد بن حنبل، ج6، ص24.

([9]) الاحتجاج، الطبرسي، ج2، ص23.

([10]) تحف العقول، ص171-172.

([11]) مصباح المتهجد وسلاح المتعبّد، ج2، ص788.

([12]) جهاد التبيين، ص41.

([13]) المحاسن، ج2، ص195.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا