نزول القرآن بين الدَّفعي والنٌّجومي

نزول القرآن بين الدَّفعي والنٌّجومي

الملخص

(تعرَّض الكاتب في مقالته إلى مسألة نزول القرآن الكريم دفعياً وتدريجياً، حيث يدل على كل منهما طائفة من الآيات والرِّوايات، فذكر مبحثين تعرض في الأول إلى سبعة آراء تتضمن كيفية الجميع بين النزول الدفعي والتَّدريجي للقرآن الكريم، ثمَّ في المبحث الثاني ذكر ما يرد على تلك الآراء مع تقوية الرأي السابع، مع عدم استبعاد بعض الآراء الأخرى)

المقدِّمة

القرآن الكريم خاتمة الكتب السماويَّة، كتاب الله الذي أنزله على رسوله الخاتم e، وهو لاشكَّ أشرف الكتب السماويَّة حيثُ أنَّه المعجزة الخالدة لأشرف الأنبياء والمرسلينi، فالبحثُ فيه وفي تفسيرِه وعلومه والوقوف على دقائق معانيه وما وراء ألفاظه بالتبع؛ لكونه أشرف الكتب، وبالنَّظر لكونه كلام الله تعالى يكون أشرف البحوث، ومن المباحث المهمَّة المرتبطة بعلوم القرآن، والتي تحضى على اهتمام الباحث في علوم القرآن مسألة نزول القرآن؛ من حيث ارتباطها من جهة بمسألة البعثة النبويَّة المباركة، ومن جهات أخرى بمسائل عديدة، وقد بُحثت هذه المسألة من جهات شتَّى، وهنا الكلام بالتَّحديد فيها من جهة كيفيَّة نزوله عليه’، ولقد بذل علماءُ التَّفسير وعلماء علوم القرآن قصارى جهدهم في الوصول إلى نتيجة فيها؛ فمنهم من ذهب إلى كون القرآن نزلَ أولاً دفعةً وثانياً تدريجاً في مدَّة عشرين سنة أو ثلاث وعشرين سنة، ومنهم من ذهب إلى كونِه نزلَ تدريجاً في مدَّة عشرين سنة أو ثلاث وعشرين سنة فقط، ومن هنا يتبيَّن أنَّ مدار البحث على كونه هل نزل تدريجاً فقط في مدَّة عشرين سنة أو ثلاث وعشرين سنة أم دفعة فقط أم كليهما؟! وعلى ماذا استند كلِّ قائل بقول منهم.

معنى النُّزول لغةً

نزل: النٌّزول في الأصل هو انحطاط من علوٍ، يقال: نزل عن دابته، ونزل في مكان كذا، حطَّ رحله فيه، وأنزله غيره، قال: {أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين} ونزل بكذا وأنزله بمعنى، وإنزال الله تعالى نعمَه ونقمه على الخلق وإعطاؤهم إياها، وذلك إمَّا بإنزال الشَّيء نفسه؛ كإنزال القرآن، وإمَّا بإنزال أسبابه والهداية إليه كإنزال الحديد واللباس، ونحو ذلك([1]).

الآيات

1.{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ}(البقرة:138).

2.{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(([2])).

3.{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}(([3])).

4.{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}(([4]))

5.{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا}(([5])).

6.{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(([6])).

الرِّوايات

من مصادرنا:

1. علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمَّد بن القاسم، عن محمَّد بن سليمان عن داود، عن حفص بن غياث، عن أبي عبد اللهg قال: سألته، عن قول الله عزَّ وجلَّ: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن}، وإنِّما أنزل في عشرين سنة بين أوله وآخره؟ فقال أبو عبد اللهg: >نزل القرآن جملةً واحدةً في شهر رمضان إلى البيت المعمور، ثمَّ نزلَ في طول عشرين سنة<، ثمَّ قال: >قال النَّبيe: نزلت صحف إبراهيم في أوَّل ليلةٍ من شهر رمضان، وأنزلت التَّوراة لستٍّ مضين من شهر رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة ليلةٍ خلت من شهر رمضان، وأنزل الزَّبور لثمانِ عشرٍ خلون من شهر رمضان، وأنزل القرآن في ثلاثٍ وعشرين من شهر رمضان<."([7])

2. قال ابن عبَّاس: "أنزل الله القرآن جملةً واحدةً من اللوح المحفوظ‍‌ إلى السَّماء الدنيا في ليلة القدر، ثمَّ كان ينزله جبريل× على محمَّد ’ نجوماً، وكان من أوُّله إلى آخره ثلاث وعشرون سنة."([8])

ومن مصادر العامَّة

1. حدَّثنا ابن المثنى، قال: ثني عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عكرِمة، عن ابن عبَّاس، قال: "نـزل القرآن كلُّه مرةً واحدةً في ليلة القدر في رمضان إلى السَّماء الدنيا، فكان اللهُ إذا أراد أن يحدث في الأرض شيئًا أنـزله منه حتى جمعه"([9]).

2. أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {إنا أنزلناه في ليلةٍ مباركةٍ} قال: أنزل القرآن في ليلة القدر، ثمَّ نزل به جبريل على رسول اللهe نجوماً بجواب كلام النَّاس."([10])

3. قال ثنا عمرو بن عاصم الكلابي، قال: ثنا المعتمر بن سليمان التيميّ، قال: ثنا عمران أبو العوّام، قال: ثنا داود بن أبي هند، عن الشَّعبيّ، أنَّه قال في قول الله: {إِنَّا أَنـزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} قال: نـزل أول القرآن في ليلة القدر"([11]).

المبحث الأول: كيف نزل القرآن؟

اختلف المفسِّرون بين قائلٍ بنزول القرآن الكريم نجوماً (تدريجاً) فقط مدَّة عشرين أو ثلاثٍ وعشرين سنة، وآخر يقول أنَّه نزل دفعةً أولاً وبعدها تدريجاً مدَّة عشرين أو ثلاث وعشرين سنة، والكلام هنا فيه مسائل ثلاث لا بدَّ من التعرُّض لها ولو بشكلٍ مختصرٍ قبل الشُّروع في بيان أقوال العلماء والمفسِّرين في كيفيِّة نزوله.

المسألة الأولى: نزول القرآن ليلة القدر

قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}.

لقد صرَّحت الآيات كما هو واضح من الآيتين السَّابقتين، والرِّوايات بنزول القرآن الكريم في ليلة القدر أو شهر رمضان دون تعيين ليلةٍ أو وقتٍ، فلا يمكن إنكار هذه الحقيقة الواضحة المصرَّح بها في أكثر من مورد ولم ينكرها أحد، وإنَّما الكلام في الجمع بينها وبين ما يُعارض وسيأتي بيانه وتفصيله.

المسألة الثانية: النُّزول والبعثة

البعثة النَّبويَّة الشَّريفة والثابت كونها قد وقعت في السَّابع والعشرين من شهر رجب؛ كما ذكر العلامة المجلسي "وعلى الأخير اتفاق الإماميِّة"([12])، وفي الخبر عن الإمام أبي الحسن الرِّضاg، قال: >بعث اللهُ عزَّ وجلَّ محمَّداe رحمةً للعالمين في سبع وعشرين من رجب<([13]).

والكلام في أنَّه قد ذهب كثير من العلماء للقول باقتران البعثة الشَّريفة بنزول شيءٍ من آيات القرآن الكريم ومن ذلك قال بعضهم: بأنَّ البعثة كانت في شهر رمضان، وفي المقابل ذهب غيرهم لعدم ثبوت هذا الإقتران، بل قالوا: إنَّ بدء نزول القرآن تأخَّر ثلاث سنواتٍ عن البعثة، ذكر الشَّيخ السبحاني: "وحيث أنَّ النفس الإنسانيِّة لا تستطيع في الوهلة الاولى تحمُّل مراتب (الوحيِّ) جميعها دفعةً واحدةً، بل لا بدَّ أن يتحملَّها تدريجاً، لهذا يجب القول بأنَّ النَّبيّe قد سمع يوم المبعث (اليوم السَّابع والعشرون من شهر رجب" النِّداء السماويِّ الّذي يخبره بأنَّه رسول اللّه فقط، ولم تنزل في مثل هذا اليوم أيَّةُ آيةٍ قطُّ، وقد استمرَّ الأمر على هذا المنوال مدَّة من الزَّمان. ثمَّ بعد مدَّة بدأ نزول القرآن الكريم على نحو التَّدريج ابتداء من شهر رمضان"([14]).

واستندوا في القول على أخبار من طرقنا وطرق العامَّة نذكر بعضها:

1."عن أبي عبد اللهg: >.. ثمَّ نزل في طول عشرين سنة..<([15])؛ حيث أنَّ هذه الرِّواية تستلزم حذف ثلاث سنين من أوَّل بعثته. 

2. قال أحمد: حدثنا محمَّد بن أبي عدي، عن داود بن أبي هند، عن عامر الشعبي أنَّ رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلَّم نزلت عليه النبوَّة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوَّته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمُّه الكلمة والشَّيء، ولم ينزل القرآن، فلمَّا مضت ثلاث سنين قرن بنبوَّته جبريل، فنزل القرآن على لسانه عشرين سنةٍ عشرا بمكَّة وعشرا بالمدينة. فمات وهو ابن ثلاث وستين سنة."([16]).

فكيف يمكن التَّوفيق بين نزول القرآن في ليلة القدر الذي قد صُرِّح به في غير مورد من القرآن الكريم وبين هذا النُّزول الذي اقترن مع البعثة؟!

المسألة الثَّالثة: أسباب النُّزول

ومعناه العلَّة التي من أجلها أو في شأنها نزلت الآية، كما في الآية الشريفة {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}([17]) فإنَّ الآية الشَّريفة كما هو واضح تتكلَّم عن موضوع تحقَّق واقعاً.

وفي معنى سبب النٌّزول ذكر الشَّيخ محمَّد هادي معرفت: "إنْ كانت هناك مشكلةٌ حاضرة، سواءٌ أكانت حادثةً أبهم أمرها، أم مسألةٌ خفي وجه صوابها، أم واقعةٌ ضلَّ سبيل مخرجها، فنزلت الآية لتعالج شأنها وتضع حلاً لمشكلتها، فتلك هي أسباب النُّزول، أي السَّبب الدَّاعي والعلَّة الموجبة لنزول قرآن بشأنها"([18]).

والملاحظ أنَّه بمجرَّد الالتفات لهذا المعنى وهو أسباب النُّزول أو شأن النُّزول والتَّصديق به وبوجوده كما هو ثابتٌ يثبت لدينا وجود نزول القرآن الكريم نجوماً أو تدريجاً؛ حيث أنَّه لا يمكن القول أنَّ الآيات لها مواضيع وقضايا نزلت في صددها ويكون القرآن كلُّه نزل في آنٍ واحد، خصوصاً أنَّ بعض الآيات نزلت في قضيةٍ تحتاج جواباً أو حلاًّ فوريّاً، غير أنَّه مع العلم بمسألة المكي والمدني تكون القضيِّة أكثر تجلياًّ؛ حيث أنَّ الآيات نزلت في ظروفٍ مكانيّةٍ وزمانيّةٍ محددة، فكيف يمكننا معالجة هذه المشكلة بعدما ثبت عندنا نزول القرآن في ليلة القدر أو شهر رمضان؛ حيث لا بدَّ من الجمع لثبوت نزوله ليلة القدر وثبوت نزوله في أزمنةٍ وأمكنةٍ متفرقة. 

الآراء في مسألة الجمع بين النٌّزول الدفعي والتدريجي

وهنا أورد العلماء سبعة آراءٍ في الجمع أو الجواب عن هذا المشكل..

الرَّأي الأوّل: 

أنَّ القرآن الكريم لم ينزل في شهر رمضان ولم يبدأ نزوله فيه، وإنَّما نزل في شأنه؛ أي أنَّ القرآن الكريم نزل في شأن شهر رمضان، قالوا: أي في شأن فرض صومه ووجوبه([19]) أو في فضله([20]).

"وعن الضَّحاك {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} يقول: الذي أنزل صومه في القرآن"([21]).

الرَّأي الثَّاني:

نزول معظم القرآن الكريم في أشهر رمضان، ولم يؤثر هذا القول إلا من بعضهم احتمالاً، ذكر سيِّد قطب "أو أنَّ معظمه نزل في أشهر رمضان"([22]).

الرَّأي الثَّالث:

هو أنَّ الله تعالى كان يُنزل على رسولهe بعضاً من آيات القرآن الكريم كلَّ ليلة قدرٍ؛ أي أنَّه في كلِّ ليلة قدر كان يَنزل على النَّبيe ما يحتاجونه طيلة تلك السَّنة، "قيل: أنَّه كان ينزل إلى السَّماء الدُّنيا في ليلة القدر ما يحتاج إليه في تلك السَّنة جملةً واحدةً، ثمَّ ينزل على مواقع النُّجوم إرسالاً في الشٌّهور والأيام عن السَّدي يسنده إلى ابن عباس"([23]) وذكر في الإتقان "وهذا القول ذكره الإمام فخر الدِّين الرَّازي بحثاً، فقال: يحتمل أنَّه كان ينزل في كلِّ‌ ليلة قدر ما يحتاج النَّاس إلى إنزاله إلى مثلها، من اللوح إلى السَّماء الدنيا"([24]).

الرَّأي الرابع: 

بدأ نزول القرآن الكريم كان في شهر رمضان وفي ليلة القدر، وبذلك يكون  لفظ القرآن في الآية {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} دالاًّ على الجنس، فيكفي نزول أيَّ شيء منه لينطبق معنى القرآن عليه([25])، وعلى هذا القول كثير من العلماء؛ حيث أنَّ كلَّ حدث مهمٍّ يكون مبدؤه هو محطُّ أنظار المؤرخين من حيث أهميته في هذا الحدث الخطير، وممَّن ذهب لهذا القول من المعاصرين العلّامة الشيخ محمَّد هادي معرفت، فذكر في التمهيد: "وهو الذي نرتئيه؛ نظراً لأنَّ كلَّ حادث خطير، إذا كانت له مدّة وامتداد زمنيّ، فإنَّ بدء شروعه هو الذي يسجَّل تاريخيّاً، كما إذا سئل عن تاريخ دولة أو مؤسَّسة أو تشكيل حزبيّ، أو إذا سئل عن تاريخ دراسة طالب علم أو تلبّسه الخاصّ وأمثال ذلك، فإنَّ الجواب هو تعيين مبدأ الشروع أو التأسيس لا غير"([26])، وممَّن ذهب لهذا القول أيضاً الزَّمخشري([27]) واحتمله الرازي، ونقل الأخير عن الشَّعبي قوله: "ابتداءً بإنزاله ليلة القدر؛ لأنَّ البعث كان في رمضان"([28]).

الرَّأي الخامس: 

هو أنَّ للقرآن الكريم نزولان الأوَّل دفعيٌّ في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بيت العزَّة أو البيت المعمور، والثَّاني نجوميٌّ(تدريجي) طيلة عشرين أو ثلاث وعشرين سنة بحسب المواضيع وأسباب النزول التي قد تمَّ التعرُّض لبيانها من بيت العزَّة أو السَّماء الدُّنيا إلى رسول الله’، وذلك استناداً على روايات من طرقنا وطرق العامَّة نذكر منها.

1. علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمَّد بن القاسم، عن محمَّد بن سليمان عن داود، عن حفص بن غياث، عن أبي عبد اللهg قال: سألته، عن قول الله عزَّ وجلَّ: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} وإنَّما أنزل في عشرين سنة بين أوله وآخره؟ فقال أبو عبد اللهg: >نزل القرآن جملةً واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور، ثمَّ نزل في طول عشرين سنة<، ثمَّ قال: >قال النَّبيe: نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من شهر رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشر خلون من شهر رمضان، وأنزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان<([29]).

2. قال ابن عباس: أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ‍‌ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثمَّ كان ينزله جبريلg على محمَّد e نجوما وكان من أوله إلى آخره ثلاث وعشرون سنة."([30])

3."أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: إنَّا أنزلناه في ليلة مباركة قال: أنزل القرآن في ليلة القدر ثمَّ نزل به جبريل على رسول الله’ نجوما بجواب كلام الناس."([31])

4."حدثنا ابن المثنى، قال: ثني عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عكرِمة، عن ابن عباس، قال: نـزل القرآن كلُّه مرة واحدة في ليلة القدر في رمضان إلى السماء الدنيا، فكان الله إذا أراد أن يحدث في الأرض شيئًا أنـزله منه حتى جمعه."([32])

وذهب لهذا القول كثيرٌ، منهم جلال الدِّين السيوطي، قال في الإتقان: "أحدها: وهو الأصحُّ الأشهر: أنَّه نزل إلى سماء الدُّنيا ليلة القدر جملة واحدة، ثمَّ نزل بعد ذلك منجَّما في عشرين سنة، أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين؛ على حسب الخلاف في مدّة إقامتهe بمكة بعد البعثة"([33]). والزركشي حيث ذكر في البرهان: "والقول الأوّل أشهر وأصحُّ، وإليه ذهب الأكثرون"([34])، وهذا الرَّأي هو ما عناه بالقول الأوَّل. 

الرَّأي السَّادس:

وهو لا يختلف كثيراً عن سابقه إلا أنَّه فيه تنجيمين أي تدريجين، الأوَّل من الحفظة على جبرئيل والثَّاني من جبرئيل على رسول اللهe، وهو ما حكاه الماوردي كما ذكر جلال الدِّين، نقلاً عن ابن حجر: "قال: وقد حكى الماورديّ قولاً رابعاً: أنَّه نزل من اللَّوح المحفوظ‍‌ جملة واحدة، وأنَّ‌ الحفظة نجَّمته على جبريل في عشرين ليلة، وأنَّ‌َ جبريل نجَّمه على النَّبيe في عشرين سنة"([35])، ويؤيِّده هذا الخبر المرويُّ عن ابن عباس " أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضّحاك، عن ابن عباس، قال: نزل القرآن جملة واحدة من عند اللّه، من اللّوح المحفوظ‍‌ إلى السّفرة الكرام الكاتبين في السّماء الدنيا، فنجّمته السّفرة على جبريل عشرين ليلة، ونجّمه جبريل على النبيe عشرين سنة"([36]).

الرَّأي السَّابع:

هو أنَّ للقرآن الكريم نزولين كذلك دفعيٌّ ليلة القدر وتدريجيٌّ طيلة عشرين سنة، ولكنَّ النزول الدفعي على هذا القول على قلب رسول الله’ لا السَّماء الدُّنيا، فمن قال بهذا القول فهم من الرِّوايات أنَّ البيت المعمور هو قلب النَّبيe، وهذا القول مستلزم لكون القرآن له وجودين الأول بسيط، وهو كما عبَّروا عنه حقيقة القرآن أو تأويل القرآن([37])، والثَّاني هذا الذي بين أيدينا؛ حيث لا يمكن القول بأنَّه نزل في ليلة وهو نفس هذا الذي بين أيدينا لما تعرَّضنا لها سابقاً من مسألة أسباب النزول، واستدلَّ من قال بهذا القول بأمور نذكرها على نحو الإيجاز.

أولاً: أنَّ الآيات الدالَّة على النُّزول الأوَّل (الدفعي) عبَّرت بلفظ الإنزال لا التّنزيل {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}([38]) والآيات التي دلَّت على التنزيل عبَّرت بلفظ التّنزيل لا الإنزال. {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا}([39]) ([40])، ومن اللُّغويين مَن صرَّح  بأنَّ لفظ التَّنزيل دالٌّ على التدريج أو أنَّ الإنزال أعمُّ، فذكر الراغب الأصفهاني: "والفرق بين الإنزال والتّنزيل في وصف القرآن والملائكة أنَّ التّنزيل يختص بالموضع الذي يشير إليه إنزاله مفرَّقا ومرة بعد أخرى، والإنزال عام"([41]).

ثانياً: أنَّ بعض الآيات دلَّت على أنَّ آيات الكتاب معلومة سابقاً لدى النَّبيe وفي قلبه 

{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}([42]) فإنَّ الذي يتَّضح من الآية أنَّه كان على علمٍ به([43])، فكيف يكون على علمٍ به ولم يُنزَّل عليه بعدُ؟!

ثالثاً: أنَّ الواضح من بعض الآيات أنَّه هناك وجود ثانٍ للقرآن الكريم محكم أو تأويل هذا الذي بين أيدينا، وإنَّما هذا الذي بين أيدينا تفصيل لذلك المجمل الذي في اللوح المحفوظ، {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ 

 يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} (سورة الأعراف: 52-53).

ذكر السيِّد العلّامة الطباطبائيx: "فإنَّ الآيات الشَّريفة وخاصَّة ما في سورة يونس ظاهرة الدِّلالة على أنَّ التَّفصيل أمر طارٍ على الكتاب، فنفس الكتاب شيء والتَّفصيل الذي يعرضه شيء آخر، وأنَّهم إنما كذبوا بالتَّفصيل من الكتاب لكونهم ناسين لشئ يؤول إليه هذا التفصيل وغافلين عنه، وسيظهر لهم يوم القيامة ويضطرون إلى علمه، فلا ينفعهم النَّدم ولات حين مناص، وفيها إشعار بأنَّ أصل الكتاب تأويل تفصيل الكتاب"([44]).

وهذا الرَّأي هو ما ذهب له الفيض الكاشاني والسيد الطباطبائي وغيرهما من علماء التفسير..

ذكر الفيض الكاشانيx: "والمستفاد من مجموع هذه الأخبار، وخبر الياس الذي أورده في الكافي في باب شأن {إنَّا أنزلناه في ليلة القدر} وتفسيرها من كتاب الحجّة أنَّ القرآن نزل كلُّه جملة واحدة في ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان إلى البيت المعمور، وكأنَّه أريد به نزول معناه على قلب النبيe، كما قال الله {نزل به الروح الأمين على قلبك}، ثمَّ نزل في طول عشرين سنة نجوماً من باطن قلبه إلى ظاهر لسانه كلَّما آتاه جبرئيلg بالوحيِّ وقرأه عليه بألفاظه، وأنَّ معنى إنزال القرآن في ليلة القدر في كلِّ سنة إلى صاحب الوقت إنزال بيانه بتفصيل مجمله، وتأويل متشابهه، وتقييد مطلقه، وتفريق محكمه من متشابهه"([45]).

المبحث الثاني: مناقشة الآراء

مناقشة الرَّأي الأوّل:

وهو كما ذكرنا أنَّ القرآن الكريم لم ينزل في شهر رمضان وإنما نزل في شأنه؛ أي أنَّ القرآن الكريم نزل في شأن وجوب صوم شهر رمضان أو فضله، ويرد على هذا القول:

أولاً: أنَّه مفتقر للدَّليل فلا يمكن القول به، بل هو مجرَّد ضرب من تأويل اللّفظ.

ثانياً: أنَّنا لو قلنا به وأوَّلنا اللفظ فسيكون في خصوص آية سورة البقرة، وأمَّا غيرها فلا يمكن القول كذلك فماذا يكون التوجيه في غيرها؟!

إذاً لا يمكن الأخذ بهذا القول لما ظهر أنَّه لايعدو كونه تأويلاً وتكلُّفاً في اللفظ.

مناقشة الرَّأي الثَّاني:

وهو أنَّ القرآن الكريم نزل معظمه في أشهر رمضان، فهو كذلك يرد عليه أنَّه بلا دليل أو مستند أو حتى مؤيِّد، ولعلَّ الواقعيَّة تأباه كما عبَّر في التمهيد([46]) فلا يمكن القول به بتاتاً.

مناقشة الرَّأي الثالث:

هو أنَّ الله تعالى كان يُنزل على رسولهe بعضاً من آيات القرآن كلَّ ليلة قدر أي أنَّه في كلِّ ليلة قدر كان يَنزل على النبي’ ما يحتاجونه طيلة تلك السنة، ويرد على هذا القول.

أولاً: أنَّه كسابقيه محتاجٌ لدليل فلا يمكن الأخذ به بلا دليل يؤيده.

ثانيا: أنَّه مع الالتفات لمسألة أسباب النُّزول لا يمكن تعقُّل هذا الكلام؛ إذ إنَّ الواضح من الآيات أنَّها نزلت في ظروفٍ خاصّة ولمعالجة مواضيع متحقّقة أو ستحقّق خصوصاً أنَّ بعضها يحتاج جواباً فوريّاً فكيف يكون النزول لما يحتاجونه في تلك السنة؟!

{یَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }([47]) فبملاحظة هذه الآية وقرائنها الكثيرة يتَّضح أنَّ الآيات نزلت في ظروف خاصة ولمعالجة قضايا تحتاج علاجاً فورياً، اذاً هذا القول كذلك باطل لا يمكن القول به.

مناقشة الرَّأي الرابع: 

هو أنَّ بدأ نزول القرآن الكريم كان في شهر رمضان وفي ليلة القدر، على أنَّ كل حدث خطير يكون مبدؤه هو المهم تاريخياً، وهذا القول يستلزم كما مرَّ أن يكون لفظ القرآن في الآية دالّا على الجنس. والمُشكل هنا..

أولاً: أنَّه لا يمكن نفي هذه الحقيقة؛ وهي أنَّ كلَّ حدث خطير يكون مبدؤه هو الأهم تاريخياً غالباً، ولكن من أين لنا أن نُجري هذه الذي ثبت عادةً وغالباً في هذا المورد، فالقول أنَّه ليس لنا بمجرد ثبوته غالباً أن نثبته في كلِّ حدث ومورد، فلا بدَّ من دليل على جريانه في هذا المورد وإلا فلا يمكننا القول به.

ثانياً: أنَّه مستلزم لحرفه عن الظاهر، فالظاهر من اللفظ أنَّ المقصود هو كل القرآن لا بعضه أو أحد أجزائه وهو وارد في كثير من الكلام، ولكن من أين فُهم هذا لا ذاك؟! فهو محتاج أيضاً لدليل أو قرينة تدلُّ على إرادة الجنس بالقرآن، وبدون القرينة أو الدَّليل لا يمكن القول بحرفه عن المعنى الظَّاهر، وذكر في ذلك الرازي: "واعلم أنَّ الجواب الأول لا يحتاج فيه إلى تحمل شيء من المجاز، وههنا يحتاج؛ فإنَّه لا بدَّ على هذا الجواب من حمل القرآن على بعض أجزائه وأقسامه"([48])، فهذا الرَّأي غير مستبعد إن كان مستنداً لدليل وأمَّا بلا دليل كما هو الحال فلا يمكن القول به.

مناقشة الرَّأي الخامس: 

هو أنَّ للقرآن الكريم نزولين الأوَّل دفعيٌّ في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة أو البيت المعمور والثاني نجوميٌّ(تدريجي) على رسول الله e، والكلام هنا أنَّه كيف يكون إنزاله هدى للنّاس كما دلَّت الآية وهو منزلٌ إلى السَّماء فقط؟! وما هو الدَّاعي لهذا النزول الأول إلى السَّماء الدُّنيا أو البيت المعمور كما قالوا؟! 

وأجاب الرَّازي على هذا السُّؤال الأخير: قال: "فإنَّه لا يبعد أن يكون للملائكة الذين هم سكان سماء الدُّنيا مصلحة في إنزال ذلك إليهم، أو كان في المعلوم أنَّ في ذلك مصلحة للرَّسولe في توقُّع الوحي من أقرب الجهات، أو كان فيه مصلحة لجبريلg، لأنَّه كان هو المأمور بإنزاله وتأديته"([49]). وفي الإجابة كذلك حكى جلال الدِّين السيوطي عن السَّخاوي قال: "وفيه أيضا، التَّسويَّة بين نبينا صلَّى اللَّه عليه -وآله- وسلّم وبين موسىo في إنزاله كتابه جملة، والتَّفضيل لمحمَّد في إنزاله عليه منجَّما ليحفظه"([50]).

والجوابين كما ترى ونظائرهما في منتهى الوهن، فما هي قيمة هذا الكلام من توقُّع الوحيِّ من أقرب الجهات ونحو ذلك؟! أو أنَّه تسويَّة لمحمَّد وسائر الأنبياء، وهل النَّبي محمَّدe محتاج لهذه التسويّة أو التشريف مع ما أعطاه تعالى من التَّفضيل العظيم على غيره من الأنبياءi، وما فضَّل به رسالتَه على سائر الرَّسائل السَّابقة؟! فلا يمكن الأخذ إذاً بهذا القول إلا بالأخذ بظاهر الرِّوايات، فهو ليس من الأمور التعبُّدية التي لا شأن لنا بتعقُّلها، ولذلك لم يرتضِ الأعلام([51]) الأخذ بهذا القول اعتماداً على ظاهر الرِّوايات بل حقَّقوا في المسألة أكثر وأكثر فصار فيها رأي آخر كما مرَّ ويأتي.

مناقشة الرَّأي السَّادس:

وهو كما مرَّ لا يختلف كثيراً عن السَّابق إلا أنَّه فيه تنجيمين أي تدريجين الأوَّل من الحفظة على جبرئيل، والثَّاني من جبرئيل على رسول اللهe، والكلام فيه عين الكلام في السَّابق عليه إذ المشكل فيه أنَّه ما هو سبب هذا النُّزول الذي سبق النُّزول على النَّبي’، وكيف يكون هادياً للنَّاس حال كونه في السَّماء؟! فلا يمكن القول به كذلك.

مناقشة الرَّأي السابع:

وهو أنَّ للقرآن الكريم نزولين ووجودين الأوّل دفعيٌّ وهو حقيقة القرآن نزل على قلب النبيe والثاني تدريجيٌّ وهو الذي بين أيدينا، وأوردوا عليه..

 أولاً: في مسألة أنَّ الآيات الدَّالة على النٌّزول الأوَّل (الدفعي) عبَّرت بلفظ الإنزال لا التَّنزيل، والآيات التي دلَّت على التّنزيل عبَّرت بلفظ التّنزيل لا الإنزال، أشكلوا بآية {لولا نزِّل عليه القرآن جملة واحدة} فالآية تتكلَّم عن النٌّزول دفعةً فكيف جاء فيها لفظ التَّدريج؟! 

وأُجيب عليه: بأنَّ مقصودنا بالدفعة والتدريج هو باعتبار البسيط والمركب، فمن عبَّر عن البسيط استخدم اللفظ الدالَّ على الدفعة، ومن عبَّر عن المركَّب استخدم اللفظ الدالَّ على التدريج، والمعنيُّ في الآية الدفعة لا باعتبار كون القرآن بسيطاً، بل باعتبار ضمِّ أجزائه ببعضها، فلذلك استخدم لفظ التدريج ولم يستخدم لفظ الدفعة؛ لأنَّه عنى بالتَّدريج يعني أنَّ الآيات ستنزل آيةً تلوَ آيةٍ في زمانٍ واحدٍ فيكون المجموعُ هو القرآن فصحَّ قصد الدُّفعة عليه. 

ذكر السِّيد العلامة الطباطبائيp: "والجواب: أنَّ المراد بالتَّدريج في النُّزول ليس هو تخلُّل زمانٍ معتد به بين نزول كلِّ جزءٍ من أجزاء الشَّئ وبين جزئه الآخر، بل الأشياء المركَّبة التي توجد بوجود أجزائها لوجودها نسبة إلى مجموع الأجزاء، وبذلك يصير الشَّيء أمراً واحداً غيرَ منقسم، والتَّعبير عنه من هذه الجهة بالنزول كقوله تعالى {أنزل من السماء ماءا}(الرعد:17)، وهو الغيث، ونسبة من حيث وجوده بوجود أجزائه واحداً بعد واحد، سواء تخلَّل بينهما زمان معتد به أو لم يتخلَّل، وهو التَّدريج، والتَّعبير عنه بالتَّنزيل كقوله تعالى: {وهو الذي ينزِّل الغيث}(الشُّورى:28)([52])، فلا يمكن إذاً النَّقض بهذا الإشكال.

ثانياً: قالوا أنَّ تفسير البيت المعمور بقلب النَّبيe محض تأويلات لا دليل عليها([53])، ولكن ما ذكرناه وما سنذكره خلاف ذلك فقد ذكروا أدلَّةً تبيِّن أنَّهe كان على علم بما سينزل عليه من آيات، وقد تعرَّضنا لبيان بعضها في المبحث الأول، والآية الآتية كذلك تردُّ هذا الإشكال.. {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ}([54])؛ فالملاحظ من الآية المباركة أنَّ النَّبيe كان يعلم بما سينزل عليه فكيف يكون يعلم بما لم ينزل عليه بعدُ؟! فلا يمكن ردُّ القول بهذا الإشكال كذلك، غير أنَّ وجود حقيقة أخرى للقرآن لا يمكن إنكارها لما سبق بيانه من مسألة الإحكام والتفصيل في الآيات يؤيِّد هذا القول أيضاً.

الخاتمة

تناولنا في طيَّات البحث عرضاً مختصراً للآراء التي طرحها علماء التَّفسير في مسألة نزول القرآن من جهة كونه نزل دفعةً وتدريجاً أو تدريجاً فقط، وقد تمَّ مناقشة الآراء على نحو الإيجاز وتبيَّن بطلان الأقوال الثَّلاثة الأُول لفقدانها للدليل، وذكرنا عدم استبعاد الرَّأي الرابع لو لم يكن مستلزماً لحرف الظاهر بلا قرينة أو مؤيِّد، وأمَّا بالنِّسبة للخامس والسَّادس فهما وإن كان فيهما روايات دلَّت عليهما إلا أنَّهما كما ذكرنا لا يمكن تعقُّلهما والأخذ بهما إلا بالأخذ بظاهر الرِّوايات، والرَّأي السَّابع الأخير هو كما بيَّنا الأقرب من جهة وجود الدَّليل، ومن جهة عدم تمام نقضه بما نقضوا به عليه، بالإضافة إلى أنَّه لا يستلزم نفي ما قبله فيُمكن القول بأنَّه نزل على البيت المعمور، وكذلك نزل على قلب النبيe، قال الشَّيخ ناصر مكارم: "فإنَّ ما استفدناه وفهمناه من الآيات السَّابقة، بأنَّ القُرآن نزل على النَّبيe مرَّتين: نزولاً دفعياً في ليلة القدر، ونزولاً تدريجياً طوال (٢٣) عاما، لا ينافي الحديث المذكور الذي يقول: إنَّه نزل في ليلة القدر إلى البيت المعمور"([55])، ويمكن القول كذلك أنَّه نزل على قلبه في تلك الليلة وابتدأ نزوله التَّدريجي كذلك لو وُجد الدَّليل.

 


 


([1])- الراغب الأصفهاني، أبي القاسم الحسين بن محمد، مفردات القرآن،ص٤٨٨.

([2])- سورة يوسف الآية 2

([3])- سورة الدخان الآية 3.

([4])- سورة القدر الآية 1.

([5])- سورة الإسراء الآية 106.

([6])- سورة الزخرف الآية 3.

([7]) الكليني، الشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب، الكافي،  ج٢، ص٦٢٩.

([8]) الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن، تفسير مجمع البيان، ج١٠، ص٧٨٦.

([9])الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، تفسير الطبري، ج١٢، ص٦٥١.

([10]) السيوطي، جلال الدين، تفسير الدر المنثور، ج٧، ص٣٩٨.

([11])الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، تفسير الطبري، ج12، ص 651.

([12]) المجلسي، الشيخ محمد باقر، بحار الأنوار، ج18، ص190.

([13]) الكافي، الكليني، ج4، ص149.

([14])السبحاني، الشيخ جعفر، سيد المرسلينK، ج1، ص347.

([15]) الكليني، الشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب، الكافي،ج ٢، ص ٦٢٩.

([16]) ابن كثير، إسماعيل بن كثير الدمشقي، البداية والنهاية،  ج٣، ص ٧.

([17]) سورة المجادلة الآية 2.

([18]) معرفة، الشيخ محمد هادي، التمهيد، ج١، ص٢٥٤.

([19]) الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن، تفسير مجمع البيان، ج2، ص497.

([20]) معرفة، الشيخ محمد هادي، التمهيد، ج1، ص115.

([21]) السيوطي، جلال الدين، تفسير الدر المنثور، ج2، ص458.

([22]) سيد قطب، إبراهيم حسين الشاربي، في ظلال القرآن، ج1، ص ١٧١.

([23]) الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن، تفسير مجمع البيان، ج٢، ص٤٩٧.

([24]) السيوطي، جلال الدين، الإتقان في علوم القرآن ج ١، ص156.

([25]) ابن شهرآشوب، رشيد الدين محمد بن على، متشابهات القرآن، ج1، ص63.

([26]) معرفة، الشيخ محمد هادي، التمهيد، ج1، ص113.

([27]) الزمخشري، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر، الكشاف، ج1، ص336.

([28]) الرازي، أبو الفتوح، تفسير الرازي، ج ٣٢، ص ٢٧.

([29]) الكليني، الشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب، الكافي، ج٢، ص٦٢٩.

([30]) الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن، تفسير مجمع البيان، ج١٠،ص٧٨٦.

([31]) السيوطي، جلال الدين، تفسير الدر المنثور،ج٧، ص٣٩٨.

([32]) الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، تفسير الطبري، ج١٢، ص٦٥١.

([33]) السيوطي، جلال الدين، الإتقان في علوم القرآن، ج1، ص 156.

([34]) الزركشي، محمد بن عبد الله، البرهان في علوم القرآن، ج١، ص٣٢١.

([35]) السيوطي، جلال الدين، الإتقان في علوم القرآن، ج١، ص١٥٨.

([36]) السيوطي، جلال الدين، الإتقان في علوم القرآن ج١،ص١٥٩.

([37]) الطباطبائي، السيد محمد حسين، تفسير الميزان، ج2،ص19.

([38]) سورة البقرة الآية 185.

([39]) سورة الإسراء الآية 106.

([40]) الشيرازي، الشيخ ناصر مكارم، تفسير الأمثل، ج16، ص120.

([41]) الراغب الأصفهاني، أبى القاسم الحسين بن محمد، مفردات القرآن، ص ٤٨٨.

([42]) سورة القيامة الآية 16/17

([43]) الطباطبائي، السيد محمد حسين، تفسير الميزان، ج 2، ص19.

([44]) الطباطبائي، السيد محمد حسين، تفسير الميزان، ج٢، ص ١٧.

([45]) الفيض الكاشاني، محسن، تفسير الصافي، ج ١، ص ٦٥.

([46]) معرفة، الشيخ محمد هادي، التمهيد، ج1، ص115.

([47]) سورة الحجرات الآية 6.

([48]) الرازي، أبو الفتوح، تفسير الرازي، ج ٥، ص ٩٣.

([49]) الرازي، أبو الفتوح، تفسير الرازي، ج ٥، ص ٩٣.

([50]) السيوطي، جلال الدين، الاتقان في علوم القرآن، ج1، ص159.

([51]) معرفة، الشيخ محمد هادي، التمهيد، ج1، ص119.

([52]) الطباطبائي، السيد محمد حسين، تفسير الميزان، ج3، ص7.

([53]) معرفة، الشيخ محمد هادي، التمهيد، ج1، ص120.

([54])- سورة طه الآية114.

([55]) الشيرازي، الشيخ ناصر مكارم، تفسير الأمثل، ج١٦، ص١٢٢.


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا