تداعيات نظريّة نسبيّة الأخلاق على المجتمع

تداعيات نظريّة نسبيّة الأخلاق على المجتمع

الملخّص:

تطرَّق الكاتب لبيان نظريّة نسبيّة الأخلاق والاستدلال عليها، ثمّ دفع تلك الأدلّة وبيّن النّظريّة الصّحيحة وهي نظريّة الأخلاق المطلقة، وبعد ذلك حاول أن يدفع ما يمكن أن يرد من القول بنسبيّة الأخلاق، على المحقّق الأصفهاني والشّيخ المظفّر والعلّامة الطباطبائيّQ، المنكرين لمسألة الحسن والقبح العقليّين الذّاتيّين، ثمّ ذكر النّظريّات الّتي ذُكرت في بيان المبرّر والدّافع للسّلوك الأخلاقيّ، وختم البحث في ذكر مجموعة من الآثار والتّداعيات على القول بنسبيّة الأخلاق.

مقدّمة

لقد شغلت مسألة الأخلاق أذهان البشريَّة منذ القدم؛ وذلك لأنَّ الأخلاق مرتبطة بسلوكيّات الإنسان، ولها انعكاساتها الواضحة على المجتمع، فما من إنسان ولا مجتمع إلّا ويبحث عن السَّعادة؛ ولذا قام الباحثون في علم الأخلاق بكتابة العديد من الكتب الأخلاقيّة؛ لكي يرشدوا النَّاس إلى طريق السَّعادة والكمال، ومن هنا تعدَّدت النَّظريّات والآراء في بيان منشأ الأخلاق لدى البشر، وهل أنَّ للأخلاق واقعيّة أم أنَّها أمور اعتباريّة؟ ثمَّ هل الأخلاق مطلقة وثابتة في كلِّ مكان وزمان، أم أنَّها نسبيّة يمكن أن تتغيَّر بحسب المكان أو الزَّمان؟
ولأنَّ تبنّي أيّ نظريّة من تلك النّظريّات يشكّل مساراً سلوكيّاً، مؤثّراً على طبيعة سلوك الفرد والمجتمع، فسوف نبحث عن نظريّة نسبيّة الأخلاق؛ باعتبارها نظريّة لها مؤيّدون كُثر، وذكروا لها أدلّة، ولهم مناقشات على نظريّة الأخلاق المطلقة، فنحاول أن نستعرض تلك النّظرية مع أدلّتها، ثمَّ نورد ما يمكن أن يرد عليها، وبعد ذلك نخلص إلى النّظرية الصّحيحة مع بيان أدلّتها أيضاً.
فيقع البحث في عدّة نقاط:
النّقطة الأولى: علم الأخلاق وعلم فلسفة الأخلاق
من المهمِّ قبل الدُّخول في تفاصيل هذه المسألة أن نعرف أنَّ هذا البحث حول مسألة نسبيَّة الأخلاق أو إطلاقها هل هو داخل في علم الأخلاق أو في علم فلسفة الأخلاق؟ فما هو الفرق بين علم الأخلاق وعلم فلسفة الأخلاق؟
علم الأخلاق هو العلم الّذي يُبحث فيه عن الصّفات الكامنة في النّفس، وعن الأفعال والأقوال والأفكار النَّاتجة عنها، وعن كيفيّة تهذيب النّفس عن الرّذائل، وتحلّيها بالفضائل. فعلم الأخلاق يقدِّم لنا قائمة -إن صحَّ التّعبير- من الصّفات والأفعال الحسنة والقبيحة، ويقول لنا افعل كذا ولا تفعل كذا، تحلّى بتلك الصّفة، وتخلّى عن تلك الصّفة.
وأمّا علم فلسفة الأخلاق فهو العلم الّذي يبيّن ملاكات الأفعال الأخلاقيّة، ويضيء عليها بنور العقل، فيجعل الاختيار الإنسانيّ لأيّ سلوك عمليّ معتمداً على أسس العقل والمعرفة. فتطرح في علم فلسفة الأخلاق المباني الأخلاقيّة مع الاستدلال عليها، وتقييم تلك المباني والقواعد، وبيان معيار التّقييم، وبيان مَن هو الملزِم للإنسان بالقيام بالعمل الأخلاقيّ، وغير ذلك من البحوث، وهذه خطوة أساسيّة ومهمّة للانتخاب الصّحيح من بين المذاهب الأخلاقيّة.
من هنا يتّضح أنّ البحث عن نسبيّة الأخلاق أو إطلاقها بحث مرتبط بفلسفة الأخلاق، وليس بعلم الأخلاق؛ لأنَّ علم الأخلاق ليس مُلزَماً أن يجيب عن هذا السّؤال: (هل الأخلاق نسبيّة أم مطلقة؟)، وإنّما علم الأخلاق كما قلنا يقدّم لنا قائمة من الأعمال والصّفات الحسنة أو القبيحة، وليس بالضّرورة أن يكون ملزماً بالدّفاع عن مبانيه وقواعده.
النّقطة الثّانية: لماذا البحث عن نسبيّة الأخلاق أو إطلاقها؟
تبرز أهمّيّة البحث في نسبيّة الأخلاق أو إطلاقها، في أنَّ القول بنسبيّة الأخلاق تترتّب عليه جملة من الأمور الخطيرة، وهي ما سنعقد نقطة خاصّة لبيانها، ولكن إجمالاً نقول بأنّه بعد تبنّي هذه النّظريّة لن يكون هناك أيّ مبرّر للدّفاع عن القيم الأخلاقيّة، ولن يكون هناك أيّ مبرّر لمواجهة الغزو الأخلاقيّ ونقد الأخلاقيات المنحرفة، وبالتّالي تضيع القيم وتتلاشى شيئاً فشيئاً في مجتمعاتنا؛ لأنَّ الأخلاق سوف تعود حينئذٍ عبارة عن رأي ووجهة نظر. ولذا كان من المهمّ بمكان أن تُبحث هذه المسألة في علم فلسفة الأخلاق بشكل صحيح ومنطقي وعميق.
النّقطة الثّالثة: تحديد محلّ النّزاع
قبل الدّخول في الاستدلالات والمناقشات الحاصلة، بين القائلين بنظريّة نسبيّة الأخلاق وبين القائلين بنظريّة الأخلاق المطلقة لا بدَّ من تحديد محلِّ النّزاع؛ لأنَّه قد تجد بعضاً منهم يستدلّ ويناقش ويُسهب في أمور هي ليست محلّاً للنّقاش أصلاً، وهذا ما يسبّب التّشويش في كثير من الموارد.
فنقول: نحن إذا أردنا أنْ نحدّد هل الأخلاق نسبيّة أو مطلقة، لا بدَّ من أن ينصبّ بحثنا على فعل واحد بما هو هو، يعني ننظر إلى الفعل بنظرة واحدة من دون لحاظ المؤثّرات الخارجيّة عليه، ثمَّ نرى هل يمكن لهذا الفعل أن يكون نسبيّاً أم لا؟ أمّا إذا أدخلنا العوامل الخارجيّة، فهنا قد يكون هذا الفعل نسبيّاً، بمعنى أنَّ حكمه يختلف من مكان إلى مكان، ومن مجتمع إلى مجتمع، وليس هذا محلّ بحثنا ونقاشنا.
مثلاً: (القتل الرّحيم) الّذي تقوم به بعض الدّول، فهذا الفعل عند من يؤمن بوجود عالم آخر غير هذا العالم، ويؤمن بأنَّ هذا الإنسان سوف ينتقل إلى ذلك العالم، ويعيش في عيشة أفضل، قد يكون بنظرهم فعلاً أخلاقيّاً، ولكن عند من لا يؤمن بوجود عالم آخر فإنَّه قد تختلف نظرته إلى هذا الفعل، فهنا هذا الاختلاف نشأ من عوامل خارجيّة، وهذا ليس محلّ النّزاع.
مثال آخر: (أداء الأمانة) عندما نريد أن نبحث هل هو أمر حسن أم لا، لا بدَّ أن نبحثه بما هو، مع قطع النّظر عن العوامل الأخرى من النّفع أو المكافأة أو غير ذلك، فإن أمكن القول بأنّ هذا الفعل الواحد له شأنيّة وصلاحية أن يكون صحيحاً وخطأً، في نفس الوقت من شخصين مختلفين، وحسناً وقبيحاً في نفس الوقت من شخصين مختلفين، فهنا يمكن القول بنسبيّة الأخلاق، وأمَّا لو لم تكن هناك هذه الشّأنيّة والصّلاحيّة لهذا الفعل، فلا يمكن القول بالنّسبيّة. 
إذاً، وجود اختلاف في المجتمعات في بعض الأحكام الأخلاقيّة أمر مسلّم عند الطّرفين، وليس هو محلّ النّزاع، وليس هذا هو الّذي تنكره نظريّة الأخلاق المطلقة، وإنّما النّزاع هو في أحكام الماوراء الأخلاق كما يعبّرون، يعني نفي وجود أحكام أخلاقيّة مطلقة في الواقع وراء هذه الأخلاقيّات، مع قطع النّظر عن العوامل الأخرى.
نعم، في بعض الموارد يبقى العقل متوقّفاً في الحكم بشأنها، فلا يستطيع الحكم بالصّحة أو الخطأ، ولا بالحسن أو القبح، ولا بالأخلاقيّة أو اللا أخلاقيّة، ولكن هذا لا يُثبت النّسبيّة الأخلاقيّة، ولا ينفي الأخلاقيّة المطلقة، وسيتّضح هذا المعنى في النّقاط القادمة إن شاء الله تعالى. 
النّقطة الرّابعة: دليل نظريّة نسبيّة الأخلاق
الاستدلال على نظريّة نسبيّة الأخلاق يمرّ بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: النّسبيّة التّوصيفيّة
يقولون في هذه المرحلة: نحن إذا استقرأنا الواقع الخارجيّ، نجد أنَّه يوجد اختلاف في توصيف بعض الأفعال، بأنَّها حسنة أو قبيحة، مؤدّبة أو غير مؤدّبة. ولا نريد هنا التّفصيل في ذكر الأمثلة لوضوح وجود هذا الاختلاف في الواقع الخارجيّ.
إذاً، في هذه المرحلة نعرف وجود اختلاف في توصيف بعض الأفعال، ولكن لا نحكم في هذه المرحلة هل هذا الفعل صحيح أم غير صحيح.
المرحلة الثّانية: نسبيّة ما وراء الأخلاق
وهنا يقولون: بعد أن وجدنا اختلافاً ونسبيّةً في توصيف بعض الأفعال الخارجيّة، نعرف أنّ هناك نسبيّة في كلّ الأحكام الأخلاقيّة، فلا يوجد حكم أخلاقيّ مطلق، ولا توجد واقعيّة للأخلاق، وإنّما الأخلاق ناشئة من سليقة الأفراد أو من سليقة المجتمع، بمعنى أنَّ الأخلاق إنّما تكون معتبرة عند من يعتقد بها ويقبل بها، سواء كان هو الفرد أم المجتمع، وإلّا لو كانت الأخلاق مطلقة ولها واقعيّة عينيّة لما اختلفت أنظار النّاس لها، ولما تفاوتت أحكامهم عليها، فلا محيص من القول بنسبيّة الأخلاق.
المرحلة الثّالثة: النّسبيّة القواعديّة
في هذه المرحلة يتمّ استنتاج بعض القواعد والأصول الأخلاقيّة العامّة، بناءً على ما تقدّم في المرحلتين السّابقتين، وهذه القواعد والأصول العامّة هي:
الأصل الأوّل: أصالة عدم مقاضاة أخلاق الآخرين
فبناءً على ما تقدّم في المرحلتين السّابقتين، فإنّ مقاضاة أخلاق الآخرين -على وفق ما تؤمن به أنت من نظريّة أخلاقيّة- يعتبر عملاً غير أخلاقيّ، فلا يحقّ لك الحكم على سلوكيّات الآخرين، بأنّها غير أخلاقيّة؛ لأنَّ ما تراه أخلاقيّاً أو غير أخلاقيّ، ليس بالضّرورة أن يكون هو كذلك عند غيرك.
الأصل الثّاني: أصالة الحرّيّة الأخلاقيّة
فعلى وفق ما تقدَّم، فإنَّ لكلِّ فرد أو مجتمع أن يختار الأخلاق الّتي تناسبه بحرّيّة، وله أن يعمل بها ويمارسها بحرّيّة، ولا يحقّ لأحد أن يكره شخصاً آخرَ على سلوك أخلاقيّ معيّن، ولا إجباره على ترك سلوك آخر.
الأصل الثّالث: أصالة التّساهل والتّسامح الأخلاقيّ
فبناءً على ما تقدّم، أيضاً يجب على كلّ فرد أن يتسامح مع الآخرين، فلا بدَّ من مراعاة أخلاق الآخرين المختلفة معه، وأن يحترم ما يختاره الآخرون من أخلاق، وألّا يتعدّى عليهم بقول أو بفعل، وبهذا يحصل التّسامح والتّعايش.
هذه هي الأصول الأخلاقيّة الّتي تَوصَّل لها القائلون بنظريّة النّسبيّة الأخلاقيّة، وتلاحظ أنّ هذه الأصول والقواعد العامّة قائمة على ما تقدّم، من النسبيّة التّوصيفيّة ونسبيّة ما وراء الأخلاق.
النّقطة الخامسة: مناقشة نظريّة النّسبيّة الأخلاقيّة
ذكرت مناقشات عديدة على نظريّة النّسبيّة الأخلاقيّة، ونحن في هذه النّقطة سوف نقتصر على أهمّ ما يمكن أن يرد عليها، وسوف نقسّم المناقشات والإشكالات إلى قسمين؛ إشكالات عامّة، وإشكالات خاصّة مرتبطة بما ذكروه في المراحل الثّلاث المتقدّمة:
القسم الأوّل: الإشكالات العامّة
الإشكال الأوّل: يواجه النّسبيّون مشكلة في تحديد المرجع الأخلاقيّ الّذي لا بدَّ من أن يُتّبع في كلّ مجتمع، فهل المرجعيّة الأخلاقيّة عندهم هي الأكثريّة؟ هل المرجعيّة الأخلاقيّة هي النّخبة في المجتمع وذوي الفكر والنّضج أم هي عامّة النّاس؟ فمن دون تحديد مرجعيّة أخلاقيّة فإنّه تحصل فوضى في المجتمع، فمثلاً لو نظرنا إلى قضيّة واحدة في مجتمع واحد وهي مسألة (القتل بالتّعاقد)، فهل هذا الفعل حسن أم قبيح؟ فنجده عند المافيا مثلاً أمراً حسناً، وعند غيرهم أمراً قبيحاً، فما هو المرجع في تحديد الحسن والقبح؟ 
الإشكال الثّاني: يواجه النّسبيّون إشكال الجذر الأصمّ (البارادوكس) المذكور في كتب المنطق والفلسفة، وهو إشكال يرجع إلى حصول التّناقض في الكلام، ومثاله المعروف: (كلّ كلامي كاذب)، فهذه العبارة تستلزم الصّدق والكذب معاً؛ لأنَّه إن كان كلامه صادقاً في الواقع لزم أن يكون المحمول في هذه القضيّة -وهو (كاذب)- صادقاً أيضاً، وبالتّالي يلزم أن يكون كلامه هذا كاذباً، وقد فرضناه صادقاً، وهذا تناقض.
هذا الإشكال يأتي على أصحاب نظريّة النّسبيّة؛ فهم من جهة يقولون: (كلّ القضايا نسبيّة)، ومن جهة أخرى يعتقدون بأنّ هذه القضيّة الّتي ذكروها، هي حقيقة مطلقة لكلّ زمان ومكان، فهذا تناقض؛ لأنّ قولهم: (كلّ القضايا نسبيّة) يشمل حتّى نفس هذه القضيّة الّتي يعتقدون بإطلاقها.
القسم الثّاني: الإشكالات الخاصّة
الإشكال الأوّل: وهو يرتبط بالمرحلة الأولى من استدلالهم وهي النّسبيّة التّوصيفيّة، الّتي مفادها أنّهم وجدوا أنّ هناك اختلافاً بين البشر، في توصيف الأفعال بالحسنة أو القبيحة، فنقول:
أوّلاً: قلنا سابقاً بأنَّ محلّ النّزاع هو فيما إذا كان هناك فعل واحد، ونظر إليه الطّرفان بنظرة واحدة من دون وجود عوامل خارجيّة، فهنا هل هذا الفعل يكون نسبيّاً أم لا؟ يعني هل يحكم عليه أحدهم بالصّحّة والآخر بالخطأ أم لا؟ وإلّا فحتّى من يقول بأنّ الأخلاق مطلقة، فهو لا ينفي وجود اختلاف في توصيف بعض الأفعال بسبب وجود عوامل خارجيّة.
ثانياً: حتّى مع وجود هذا الاختلاف في التّوصيف فإنّه لا يُثبت النّسبيّة؛ لأنّه يُحتمل أن يكون هذا الاختلاف في التّوصيف راجعاً إلى شيء واحد، ولكن في مقام الإبراز والتّعبير عن هذا الشّيء الواحد يقع الاختلاف. فمثلاً: نجد المجتمعات تتّفق على احترام الوالدين بعد الموت، ولكن يختلفون في إبراز هذا الاحترام، ففي مجتمع يقومون بإحراقهما، وفي مجتمع ثانٍ يقومون بدفنهما بلباسهما وأموالهما، وفي مجتمع ثالث يقومون بإلقائهما في النّهر، وهكذا.
ثالثاً: كثير من الأمثلة الّتي تُذكر على أنّ فيها اختلافاً في التّوصيف، ترجع في الحقيقة إلى تقديم الأهمّ على المهمّ، وهذا لا يعني أنّ هناك نسبيّة في الأخلاق.
الإشكال الثّاني: وهو يرتبط بالمرحلة الثّانية من استدلالهم وهي نسبيّة ما وراء الأخلاق، أي نفي وجود حكم أخلاقيّ مطلق في الواقع، فنقول:
أوّلاً: ذكرُ بعض النّماذج الّتي حصل فيها اختلاف في التّوصيف واختلاف في النّظر، لا يمكن من خلاله الوصول إلى نتيجة كلّيّة مفادها أنّ كلّ الأخلاق نسبيّة، وكذلك لا يمكن نفي وجود أخلاق مطلقة، فالانتقال من النّسبيّة التّوصيفيّة إلى نسبيّة ما وراء الأخلاق غير صحيح منطقيّاً.
ثانياً: يمكن أن يُنقض عليهم بمسائل علم الفيزياء أو الهندسة مثلاً، فهل الاختلاف في بعض هذه المسائل يعني عدم وجود واقعيّة لها؟! فالقضايا الفيزيائيّة والهندسيّة تابعة للشّرائط الواقعيّة لها، ولا ربط لها باختلاف وجهات النّظر، ولا بسليقة الأفراد أو المجتمعات.
ثالثاً: القائلون بنسبيّة الأخلاق يدّعون أنّ الاختلاف في الأخلاقيات، يعود إلى اختلاف سليقة الفرد أو سليقة المجتمع، ولكن نقول: لعلّه لا يرجع أصلاً إلى الاختلاف في السّليقة، وإنّما يعود في كثير من الموارد، إلى التهرّب من الالتزامات العمليّة فيما لو قَبِل بهذه الأخلاق. 
وتوضيح ذلك: هناك بعض الأمور لو اعتقدتَ بها والتزمتَ بها، فإنّ ذلك لا يحمّلك عواقب تحمّل مسؤوليّات والتزامات عمليّة، كما لو اعتقدت بأنّ الماء يتبخّر عند درجة حرارة 100 مثلاً، فهذا لا يخلق أمامك مسؤوليّة والتزاماً عمليّاً، وهناك بعض الأمور إذا اعتقدت بها فإنّه سوف يؤدّي ذلك إلى بعض الالتزامات العمليّة، ومنها الاعتقاد بأنّ هذا الفعل حسن فينبغي فعله، وذاك الفعل قبيح فينبغي تركه، فهذا الاعتقاد يعني أنّني لا بدَّ أن أعمل على وفق ما أعتقده، فلذلك من الممكن جدّاً أنَّ الاختلاف الحاصل في الأخلاقيات وتوصيفها، إنما نشأ تهرّباً من تحمّل المسؤوليّة، لا أنّ الأخلاق لا واقعيّة لها سوى سليقة الفرد أو المجتمع.
الإشكال الثّالث: وهو يرتبط بالمرحلة الثّالثة من استدلالهم وهي النّسبيّة القواعديّة، والّتي هي عبارة عن استنتاجات لبعض الأصول الأخلاقيّة الّتي مرّت معنا، فنقول:
أوّلاً: من النّاحية المنطقيّة يعتبر الانتقال من ملاحظة الواقع إلى إصدار التّوصيات الأخلاقيّة انتقالاً غير منطقيّ، فهم انتقلوا من مرحلة ملاحظة التّعدّديّة في الواقع الخارجيّ وملاحظة اختلاف التّوصيف، إلى مرحلة إصدار الأصول والتّوصيات العمليّة الأخلاقيّة، وهذا غير صحيح؛ لأنّه من المتّفق عليه بأنّه لا يوجد ارتباط منطقيّ بين ما هو موجود في الواقع وبين ما ينبغي فعله، فلا علاقة منطقيّة بين أحكام الواقع وبين أحكام الواجب فعله. وبعبارة أخرى: مقدّمات هذا الاستدلال لا تؤدّي إلى النّتيجة المطلوبة؛ لعدم الارتباط بينهما.
ثانياً: كما ذكرنا في الإشكالات العامّة، فإنّ النّسبيين لا يقبلون بالأصول الأخلاقيّة المطلقة، فكيف هنا ينتهون إلى استنتاج أصول أخلاقيّة مطلقة؟! هذا تناقض. (راجع إشكال الجذر الأصم المتقدّم).
ثالثاً: هذه الأصول متناقضة وتتنافى مع بعضها البعض، فمثلاً أصالة عدم مقاضاة أخلاق الآخرين تقول: بأنّ مقاضاة أخلاق الآخرين يعتبر عملاً غير أخلاقيّ، فتلاحظ أنّ نفس هذا الحكم فيه مقاضاة لأخلاق الآخرين، والحكم عليه بأنّه عمل غير أخلاقيّ!
وكذلك مثلاً أصالة الحرّيّة تتنافى في بعض الموارد مع أصالة التّسامح؛ كما لو فرضنا مجتمعاً عنصريّاً يرى بأنّ عرقه وعنصره هو الأفضل، ويعتقد بأنّه لا بدَّ أن يزيل كلّ الأعراق الأخرى، وافترضنا وجود مجتمع آخر يرفض العنصريّة، ويعتقد بأنّه لا بدَّ من إزالة هذا المجتمع العنصريّ، فأصالة الحرّيّة الأخلاقيّة تدعو هذين المجتمعين إلى الحرب، بينما أصالة التّسامح تعارض هذا الأصل وتقول له: لا تعمل بأصالة الحرّيّة.
وهكذا حتّى القائلين بالنّسبيّة الأخلاقيّة من النّاحية النّظريّة، لا يستطيعون الالتزام بتلك الأصول والقواعد بشكل تامّ عمليّاً؛ فهم لا يمكنهم الالتزام بأصالة التّسامح في قبال الأشخاص الّذين يخالفونهم، ولا يلتزمون بما يريده غيرُهم المخالفون لهم.
وكذلك تلاحظ أنّ أصالة الحرّيّة الأخلاقيّة هو حكم يشمل نفسه، فكيف يعتبرونه أصلاً ويلزمون الآخرين به مع أنّ الآخرين لهم الحرّيّة في القبول به وعدمه؟!
النّقطة السّادسة: رأي المحقّق الأصفهاني والشّيخ المظفّر والعلّامة الطّباطبائيّQ في الحسن والقبح العقليّين؟
إنّ المحقّق الأصفهانيّO وتلميذه الشّيخ المظفّرO وكذلك العلّامة الطّباطبائيّO، يذهبون إلى ما ذهب إليه بعض الفلاسفة الإسلاميّين -كالشّيخ الرّئيس ابن سينا- من إنكار الحسن والقبح العقليّين الذّاتيّين، ويرون أنَّ الحسن والقبح لا واقع لهما وراء تطابق آراء العقلاء عليهما، خلافاً لما عليه مشهور المتكلّمين والأصوليّين، فهل قولهم هذا يلزم منه القول بنسبيّة الأخلاق ونفي الأخلاق المطلقة، أم لا يلزم ذلك؟
ولفهم كلام هؤلاء الأعلام ينبغي استعراض كلماتهم والتّدقيق فيها؛ حتَّى نعرف مبناهم ونعرف لوازمه، ولكن لا يسع هذا المقام بيان كلّ تلك الكلمات وتحليلها؛ فهي تحتاج إلى بسط كلام حتّى كُتبت الكتب والرّسائل والمقالات حول هذا الموضوع باللّغتين العربيّة والفارسيّة، وبناءً على ذلك أحيل القارئ الكريم إلى المصادر الّتي تطرّق هؤلاء الأعلام الثّلاثة فيها لهذا المطلب، وكذلك بعض المصادر الأخرى الّتي تطرّقت لآرائهم؛ حتّى تعمّ الفائدة.
وخلاصة الجواب الذي يمكن أن نذكره هنا: أنَّ هؤلاء الأعلام وإن كانوا يقولون باعتباريّة الحسن والقبح، وأنَّه لا واقع لهما وراء تطابق آراء العقلاء عليها، إلّا أنّهم لا يلتزمون بنسبيّة الأخلاق، بل يرون أنّ الأخلاق ثابتة؛ وذلك لأنَّ تطابق العقلاء لا يكون اعتباطيّاً، بل هو يرجع إلى أمر واقعي، هو الّذي يقتضي من العقلاء أن يحكموا على الفعل بأنَّه حسن أو قبيح، وهذا الأمر الواقعيّ ثابت، وهو حفظ المصلحة العامّة للنّظام وحفظ النّوع.
وعبارات المحقّق الأصفهانيّO‌ والعلّامة المظفّرO‌‌ وإن كانت غير صريحة في أنَّ المسألة تعود إلى أمر واقعيّ، وأنّ الأخلاق ثابتة -لأنّهما لم يكونا بصدد الحديث عن نسبيّة الأخلاق- ولكن يمكن استكشاف ذلك منها، وأمَّا عبارات العلّامة الطّباطبائيO فهي صريحة في هذا المعنى. 
قال العلّامة الطّباطبائيO: "ولا تصغ إلى قول من يقول: إنّ الحسن والقبح مختلفان متغيّران مطلقاً، من غير ثبات ولا دوام ولا كلّيّة، ويستدل على ذلك في مثل العدل والظّلم، بأنّ ما هو عدل عند أمّة بإجراء أمور من مقرّرات اجتماعيّة، غير ما هو عدل عند أمّة أخرى، بإنفاذ مقرّرات أخرى اجتماعيّة، فلا يستقرّ معنى العدل على شيء معيّن، فالجلد للزّاني عدل في الإسلام، وليس كذلك عند الغربيّين، وهكذا.
وذلك أنّ هؤلاء قد اختلط عليهم الأمر، واشتبه المفهوم عندهم بالمصداق، ولا كلام لنا مع من هذا مبلغ فهمه".
ويقول في موضع آخر: "نعم هناك أمور اعتباريّة وأحكام وضعيّة، لا تختلف فيها المجتمعات، وهي المعاني الّتي تعتمد على مقاصد حقيقيّة عامّة، لا تختلف فيها المجتمعات، كوجوب الاجتماع نفسه، وحسن العدل، وقبح الظّلم".
ويقول أيضاً: "حقيقة الأمر أنّ هذه ونظائرها أمور اعتباريّة وضعيّة، لها أصل حقيقيّ، وهو أنّ الإنسان ـ ونظيره سائر الحيوانات الاجتماعيّة كلّ على قدره ـ في مسيره الحيويّ، الّذي لا يريد به إلّا إبقاء الحياة ونيل السّعادة ناقص محتاج، يرفع جهات نقصه وحاجته بأعماله الاجتماعيّة، الصّادرة عن الشّعور والإرادة، فاضطرّه ذلك إلى أن يصف أعماله، والأمور الّتي تتعلّق بها أعماله، في طريق الوصول إلى غاية سعادته، والتّجنّب عن شقائه بأوصاف الأمور الخارجيّة، من حسن وقبح ووجوب وحرمة، وجواز وملك وحقّ وغير ذلك، ويجري فيها نواميس الأسباب والمسبّبات، فيضع في إثر ذلك قوانين عامّة وخاصّة ، ويعتقد لذلك نوعاً من الثّبوت الّذي يعتقده للأمور الحقيقيّة؛ حتّى يتمّ له بذلك أمر حياته الاجتماعيّة".
إذاً، فعبارات العلّامة الطّباطبائيO صريحة في ثبوت الأخلاق وعدم نسبيّتها، وإن كان مبناه هو أنّ الحسن والقبح أمران اعتباريّان، وليسا واقعيّين ذاتيّين للفعل، إلّا أنّ هذا الاعتبار له منشأ واقعيّ.
النّقطة السّابعة: الدّليل على نظريّة الأخلاق المطلقة
بعد كلّ ما تقدّم من نقاط اتّضح لنا، بأنَّ القول بنسبيّة الأخلاق هو قول باطل، ولا يركن إلى دليل يُعتمد عليه، وبالتّالي يثبت أنّ الأخلاق مطلقة ولها واقعيّة، ولا نحتاج لمزيد برهان على ذلك، ولكن لا بأس أن نذكّر بهذا الدّليل:
أوّلاً: بناءً على القول بالحسن والقبح العقليّين ، فإنّ الأخلاق ممّا يدركها العقل استقلالاً؛ فهي أمور واقعيّة يدركها العقل، وتشعر بها النّفس، حتى لو كان الإنسان بمعزل عن المجتمعات والعقلاء، فنحن بالوجدان نشعر بأنّ العدل حسن والظلم قبيح، حتّى لو كنّا بمعزل عن كلّ المجتمعات، فليست هي أمور اعتباريّة ناشئة من اعتبار العقلاء. 
وهذا ما يظهر من القرآن الكريم حيث قال: {ونفس وما سوّاها، فألهمها فجورها وتقواها}(الشّمس: 7- 8)، يعني أنّ النّفس تدرك الحسن والقبيح فطرةً، ومن دون حاجة إلى تعلّم أنّ العدل حسن والظّلم قبيح. 
ثانياً: إذا أثبتنا أنَّ الأخلاق ممّا يدركها العقل، وأنّها فطريّة ووجدانيّة، فهي بالتّالي من سنخ العلم الحضوريّ، وبالتّالي لا نحتاج إلى برهان لإثبات أنّ الأخلاق مطلقة، بل يكفينا برهاناً إدراك الفطرة إيّاه، وإمضاء القرآن له؛ لأنَّ العقل والفطرة لا يختلف حكمها من مكان دون مكان، ولا زمان دون زمان.
شواهد أخرى على إطلاق الأخلاق
لا بأس هنا بذكر بعض الشّواهد من الآيات والرّوايات، الّتي تدلّ على إطلاقيّة الأخلاق، ونفي نسبيّتها؛ حتّى نستنير بنور القرآن ونور أهل البيتi:
الشّاهد الأوّل: قوله تعالى:﴿قُل لا يَسْتَوي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَو أَعْجَبَكَ كَثرَةُ الخَبِيثِ﴾(المائدة:100)، حيث إنّ الآية ذكرت (الطّيّب والخبيث) بشكل مطلق، ولم تترك الأمر للمجتمعات في صياغة هذه القيم، فالخبيث خبيث واقعاً، والطّيّب طيّب واقعاً، سواء اتّفقت المجتمعات على ذلك أم لا، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَيُحِلُّ لَهُم الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلِيهِم الخَبَائِثَ﴾(الأعراف: 157).
الشّاهد الثّاني: قوله تعالى: ﴿إنَّ اللهَ لَذُو فَضلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشكُرُونَ﴾(البقرة:243)، وقوله تعالى: ﴿وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَو حَرَصْتَ بِمُؤمِنينَ﴾(يوسف: 103)، فتلاحظ أنّ هذه الآيات اعتبرت الشّكر والإيمان من القيم، وإن خالف في ذلك أكثر النّاس، وفي مقابلها اعتبرت كفران النّعم، والكفر بالله تعالى من الرّذائل، وإن مال إليها أكثر النّاس، فليس المعيار في القيم الأخلاقيّة نسبيّاً يتبع المجتمعات، وإنّما هي قيم مطلقة.
الشّاهد الثّالث: ما ورد عن أمير المؤمنينg في خطبته: «أيّها النّاس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله، فإنَّ النَّاس اجتمعوا على مائدة شبعها قصير، وجوعها طويل»، فليس المعيار في تحديد القيم الأخلاقيّة هو ذهاب أكثر النّاس إليها، بل القيم الأخلاقيّة ثابتة ومطلقة.
النّقطة الثّامنة: إيرادٌ على القائلين بالأخلاق المطلقة وردّه
بعد أن ثبت لدينا أنَّ الأخلاق لها واقعيّة، وأنَّها مطلقة غير نسبيّة، ينبغي على أصحاب هذه النّظريّة، أن يجيبوا عن بعض الإيرادات والشّبهات، على نظريّة الأخلاق المطلقة؛ لكي تكون فكرة الأخلاق المطلقة واضحة من جميع النّواحي.
وأكثر الإشكالات تداولاً وشيوعاً هو ما حاصله: أنّه كيف تكون الأخلاق مطلقة والحال أنّ لها استثناءات، فهي لا تصدق في كلّ مكان وزمان، فكيف تعدّون الصّدق والوفاء بالعهد وغير ذلك، من الصّفات الحسنة مطلقاً، والحال أنّ لكلّ منها استثناءات؟ فالصّدق ليس حسناً على إطلاقه، بل قد يكون قبيحاً في بعض الموارد، والوفاء بالعهد كذلك، والكذب ليس قبيحاً على إطلاقه، بل قد يكون حسناً في بعض الموارد.
أجيب عن هذا الإشكال بعدّة أجوبة، نذكر منها:
الجواب الأوّل: أنّ الأخلاق مطلقة، وليست قابلة للاستثناء، إذا لاحظناها مع جميع شروطها، فإذا لاحظنا جميع شروط الوفاء بالعهد حكمنا على أنّه حسن على الإطلاق، وإذا لاحظنا جميع شروط الكذب حكمنا على أنّه قبيح على الإطلاق، وأمّا السّبب في ورود بعض الاستثناءات فإنّه يعود إلى إجمال الموضوع، وعدم تحقّق بعض الشّروط، وإلّا فإنّ جميع الأحكام الأخلاقيّة لا يوجد فيها استثناءات في الحقيقة.
ويرد على هذا الجواب: كيف يمكننا معرفة توفّر جميع القيود أو عدم توفّرها لنحكم عليها؟ فهذا الرّأي يوقعنا في الإبهام ومستنقع الشّروط والقيود، وهذا لا يعطينا علماً بماهيّة الأخلاق الحسنة ولا القبيحة.
فهذا الجواب فعلاً يشكّل الجانب الإفراطيّ -كما يعبّرون- عند القائلين بنظريّة الأخلاق المطلقة، ولا نقول به.
الجواب الثّاني: أنّ الأحكام الأخلاقيّة غالبيّة، بمعنى أنّ الوفاء بالعهد مثلاً أو الصدق مثلاً الأصل فيها أن تكون حسنة، والكذب والقتل مثلاً الأصل فيها أن تكون قبيحة، وأمّا تلك الاستثناءات فهي نادرة، ولا ترقى إلى أن تمنعنا من إصدار حكم كلّيّ يشمل معظم الموارد.
وأشكل بعضهم على هذا الجواب: بأنّه لا يتناسب مع القول بأنّ الأخلاق مطلقة، بل هو أقرب للقول بالنّسبيّة، فكأنّ هذا الجواب يرى أنّ الأخلاق تتبع حالات المجتمع الغالبيّة، وليس الحسن والقبح ذاتيّين للفعل، فهل يستلزم هذا الرّأي حسن السّرقة مثلاً، إذا ما عمّ الظّرف الاستثنائيّ الّذي يجوّزها.
ويمكن الملاحظة على هذا الإشكال: بأنّ النّسبيّة ماذا تعني؟ النّسبيّة تنفي وجود أصل أخلاقيّ ثابت، فالصّدق مثلاً عندهم لا هو حسن ولا هو قبيح، والكذب لا هو حسن ولا هو قبيح، إلّا إذا قبلها المجتمع، هذا ما يقوله النّسبيّون. أمّا نظريّة الأخلاق المطلقة فيقولون بوجود أصول وقيم ثابتة، سواء قبلها المجتمع أم لم يقبلها، ومجرّد وجود بعض الاستثناءات لهذه الأصول لا يعتبر دليلاً على نسبيّتها، فلكلّ قاعدة استثناء كما يقولون. فينبغي الالتفات حينئذٍ إلى أنّ نسبيّة الأخلاق والحُسن والقُبح مطلبٌ، والاستثناء مطلبٌ آخر.
الجواب الثّالث: أنّ الأخلاق مطلقة وثابتة ولا تتغيّر، ولكن ما نجده من تفاوت واختلاف واستثناءات، فهو يعود في الحقيقة إلى شيء آخر وهو تقديم الأهمّ على المهمّ، وهذا -أي تقديم الأهمّ على المهمّ- أيضاً من الفطريّات، فما تراه من تجويز العقل فعل القبيح أو وجوبه، فهو إنّما من باب تقديم الأهمّ على المهمّ، فالعقل قد يجوّز بل يوجب ارتكاب الكذب، إذا توقّف حفظ نفس محترمة عليه مثلاً، ولكن هذا من باب تقديم الأهمّ على المهمّ، لا من باب نسبيّة الأخلاق.
الجواب الرّابع: لو سلّمنا بوجود نسبيّة في بعض الموارد، إلّا أنّه ينبغي التّفريق بين الصّفة الأخلاقيّة، وبين الفعل الأخلاقيّ، وبعبارة أخرى: هناك فرق بين الأخلاق وبين الأخلاقيّات، فالأخلاق هي الصّفات الكامنة في النّفس، بينما الأخلاقيّات فهي الأفعال والأقوال والأفكار النّاتجة عن تلك الصّفات، فضيلةً كانت تلك الصّفات أم رذيلة، والصّفات الأخلاقيّة لا تقبل التّقسيم إلى حسنة وقبيحة في حدّ ذاتها، فلا يقال: عدلٌ حسن وعدلٌ قبيح، ولا يقال: ظلمٌ حسن وظلمٌ قبيح، وإنّما هناك إيذاء حسن وإيذاء قبيح، وقتل حسن وقتل قبيح، وقول حسن وقول قبيح، وهكذا. وهذا في كثير من الموارد يرجع إلى تبدّل وتغيّر الموضوع، وليس إلى النّسبيّة، فمثلاً العدوان على الآخرين يعتبر جناية وموضوعاً للقصاص، وهو فعل قبيح، ولكن لو جاء طبيب لمعالجة مريض عن طريق شقّ بطنه مثلاً، فهنا يتبدّل الموضوع، فلا يعتبر هذا العمل منه عدواناً وجناية، فلا يكون قبيحاً، وهكذا الكذب وغيره من الرّذائل إذا تبدّل موضوع الفعل، فإنّه يتبعه الحكم.
النّقطة التّاسعة: مبرّرات ودوافع السّلوك الأخلاقيّ
بعد أن أثبتنا أنّ الأخلاق مطلقة وغير نسبيّة، يأتي هذا التّساؤل: ما هو المبرّر والدّافع نحو السّلوك الأخلاقيّ؟ فمجرّد كون الأخلاق أمر واقعيّ ومطلق، لا يكفي لبيان المبرّر والدّافع نحو هذه الأفعال الأخلاقيّة، بل لا بدّ من توضيح ذلك.
ذكر الشّهيد مطهّريO مجموعة من النّظريّات الأخلاقيّة في كتاب فلسفة الأخلاق، ويمكننا أن نجعل هذه النّظريّات، عبارة عن بيان المبرّر والدّافع نحو السّلوك الأخلاقيّ، ونذكر أهمّها على نحو الإيجاز ببيانٍ منّا:
النّظريّة الأولى: نظريّة العاطفة
يمكن أن نجعل المبرّر والدّافع، نحو السّلوك الأخلاقيّ هو عاطفة الإنسان، حيث توجد في الإنسان قوّة عاطفة -تفوق الميول الشخصيّة والفرديّة- تدفع الإنسان نحو الإحسان للآخرين وإيصال الخير إليهم، وتدعوه لمحبّة الآخرين. وهذا أمر تؤمن به كلّ الأديان. 
ويرد على هذه النّظريّة:
أوّلاً: هذه النّظريّة وإن كان فيها جانب من الصّحّة، إلّا أنّها لا تكفي لتبرير الفعل الإنسانيّ الّذي يتجاوز حدود الذّات إلى الغير، ولا يوجد فيها ما يصلح لأنْ يكون مبرّراً لهذا الفعل الّذي تعدّى الذّات إلى الغير.
ثانياً: ليس كلّ محبة تعتبر أخلاقاً، وليس كلّ فعل ممدوح يعدّ أخلاقيّاً، ولا كلّ فعل مذموم يعدّ غير أخلاقيّ، فمثلاً الفارس القويّ يُمدح على قوّته، ولكن لا يعدّ ذلك فعلاً أخلاقيّاً؛ لأنَّ الفعل الأخلاقيّ يتضمّن في داخله عنصر الاختيار، أمَّا الفعل الغريزيّ الّذي لا اختيار فيه، لا يعتبر فعلاً أخلاقيّاً وإن استحقّ المدح.
ثالثاً: حصر الأمر الحسن بالمحبّة هو أمر غير صائب؛ فإنَّ دائرة الأخلاق أوسع من محبّة الآخرين، حيث هناك أخلاق نبيلة يمارسها الإنسان، من غير أن تكون ناشئة من محبّة الآخرين، كالإباء والعزّة والكرامة.
النّظريّة الثّانية: نظريّة الجمال
فإنّ الّذي يدفع الإنسان نحو الفعل الأخلاقيّ، هو إحساسه بجمال هذه الأفعال الأخلاقيّة، ونحن لكي نساهم في ارتقاء المجتمع أخلاقياً، لا بدَّ من زرع الحسّ الجماليّ في النّاس، من خلال التّربية؛ فإنَّ النّاس بمجرّد أن يحسّوا بجماليّة الأخلاق الكريمة، فإنّهم سيندفعون إليها من تلقاء أنفسهم، ويقلعون عن الرّذائل لشناعتها؛ فإنّ أكثر النّاس يرتكبون الرّذائل؛ بسبب أنّهم لم يشعروا ولم يدركوا جمال الفضائل، فالسّبب الّذي يدعو النّاس إلى الكذب، هو عدم إدراكهم لجمال الصّدق، والسّبب الّذي يدفع النّاس نحو الخيانة، هو عدم إدراكهم لجمال الأمانة، وهكذا.
ويرد على هذه النّظريّة: 
بأنّ هذه النّظريّة أيضاً فيها جانب من الصّحّة، إلّا أنّها لا تكفي بمفردها لتبرير السّلوك الأخلاقيّ للإنسان؛ إذ هذه النّظريّة أغفلت المنبع الأصليّ للجمال، وهو الذّات الإلهيّة كما سيتّضح في النّظريّة الرّابعة.
النّظريّة الثّالثة: نظريّة سيطرة العقل
هذه النّظرية هي نظريّة الفلاسفة والحكماء الإسلاميّين، وحاصلها: أنّ العقل هو المسيطر على سائر القوى، بحيث يكون العقل هو المسيّر لها، ويكون هو المحافظ على توازنها واعتدالها، بل حتّى العاطفة ينبغي أن تكون تحت سيطرة العقل، وإلّا لو خرجت هذه القوى عن سيطرة العقل، لخرجت من حدّ الاعتدال إلى حدّ الإفراط أو التّفريط.
ومفاد هذه النّظريّة هو أنّه لا بدَّ أن تكون هناك إرادة للإنسان -وليس مجرّد الميل الّذي هو عند الحيوانات أيضاً-، بحيث تضع الميول النّفسيّة، المرغوب فيها أو عنها تحت مراقبة العقل، بحيث تخدم المصلحة الفرديّة والاجتماعيّة. فالّذي يدفع الإنسان نحو السّلوك الأخلاقيّ هو العقل وحده.
ويرد على هذه النّظريّة: 
أنّ هذه النّظريّة أيضاً لا تكفي بمفردها لتبرير السّلوك الأخلاقيّ، خصوصاً على ما قُرّر في محلّه، من أنّ العقل وظيفته الإدراك فقط، لا البعث والتّحريك أو الزّجر. 
نعم هذه النّظريّة صحيحة من جانب، ولكن غير صحيحة من جانب آخر، وهو إغفال الجانب الإلهيّ كما سيتّضح في النّظريّة الرّابعة. 
النّظريّة الرّابعة: نظريّة الوجدان الأخلاقيّ (الفطرة)
فالله تعالى قد أودع في الإنسان قوّة باطنيّة تدعوه إلى فعل ما ينبغي، وترك ما لا ينبغي، وهي غير العاطفة وغير العقل، بل هي قوّة نابعة من الفطرة، قد تسمّى بالوجدان تارة، وبالضّمير تارة أخرى. والفيلسوف الألمانيّ (كانت) يذهب إلى هذه النّظريّة أيضاً، فهو يؤمن بأنّ الوجدان أو العقل العمليّ يتضمّن مجموعة من الأحكام القبليّة؛ أي الّتي لم يحصل عليها الإنسان من طريق الحسّ والتّجربة، وإنّما هي جزء من فطرته وكيانه، وأنّ الوجدان الأخلاقيّ يدعو إلى الكمال لا إلى السّعادة، وأنّ الفعل غير الأخلاقيّ لا يخلو من عذاب الضّمير لفاعله، وأنّ الإنسان موجود حرّ مختار بحكم وجدانه لا بالدّليل الفلسفيّ. بالإضافة إلى إيمانه أيضاً ببقاء النّفس وخلودها.
ويرد على هذه النّظريّة: 
أوّلاً: إنّ هذه النّظريّة -الّتي تبنّاها الفيلسوف الألمانيّ (كانت)- قد قلّلت من شأن العقل، ودوره في إدراك واستكشاف ما وراء الطّبيعة (الميتافيزيقا)؛ فإنّ العقل يمكنه إدراك بعض الأخلاق ولو من باب التّأييد للوجدان، فالتّقليل من شأن العقل أو إلغاء دوره مطلقاً لا نسلّم به.
ثانياً: إنّ الوجدان لا يحكم على الأفعال بأحكام مطلقة كما يقول (كانت)، فهو يقول بأنّ الكذب مثلاً قبيح مطلقاً، وأنّ الوجدان حاكم بذلك، بينما الصّحيح أن يقال: بأنّ هناك أحكاماً مطلقة وأحكاماً مقيّدة، فالأحكام المطلقة مثل العدل والظّلم، والأحكام المقيّدة مثل الكذب والصّدق؛ فقد يحدث أن يُفرّغ الصّدق من هذا المبدأ فينقلب من حسن إلى قبيح، ومن ممدوح إلى مذموم؛ رعاية للمصلحة الأهمّ، والوجدان هو الحاكم بذلك أيضاً.
ثالثاً: إنّ الحسّ الوجدانيّ لا ينبغي توهّم استقلاله كما توهّم (كانت)؛ حيث عدّ التّكليف الخُلُقي نابعاً من أعماق الضّمير الإنسانيّ، من دون أن يتوقّف في ذلك على شيء آخر. والصّحيح أن يقال بأنّ الضّمير يكتسب التّكليف بالإلهام والفطرة؛ وذلك بالاستناد إلى الله تعالى كما سيأتي في النّظريّة الرّابعة، {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْراتْ} (الأنبياء: 73).
النّظريّة الخامسة: نظريّة العبادة
وهي النّظريّة الّتي يؤمن بها الشّهيد مطهّريO، فهو يرى بأنّ النّظريات السّابقة، قد يكون فيها جانب من الصّحّة، إلّا أنّها لوحدها تفتقد للمبرّر المنطقيّ الدّاعي إلى السّلوك الأخلاقيّ، ما لم تكن مرتبطة بالله تعالى وبالدّين الإلهيّ.
فهو يُرجع السّلوكيّات الأخلاقيّة إلى مقولة العبادة، فالّذي يتحلّى بالأخلاق هو عابدٌ في الحقيقة، وإن لم يشعر بذلك. والمراد من كون الأخلاق من مقولة العبادة هو أنّ المرء يقدّس سلسلة من السّلوكيّات الأخلاقيّة، ويمارسها في حياته وإن خالفت هوى نفسه ومنافعه الشّخصيّة. 
وخلاصة الفكرة: أنّ الإنسان عندما يعبد الله تعالى بصورة غير واعية، فإنّه يكون خاضعاً في عبادته، لمقتضى الفطرة الإلهيّة المنغرسة فيه، ومتّبعاً للأوامر الإلهيّة الكامنة في وجود هذا الإنسان وكيانه الدّاخليّ، وبمجرّد أن يتحوّل شعوره اللاواعي إلى الشّعور الواعي -كما هو هدف بعثة الأنبياء-، فإنّ جميع أفعاله وسلوكيّاته تصبح ذات صبغة أخلاقيّة، بمعنى أنّه إذا جعل الإنسان من تكليف الحقّ تعالى ورضاه منطلقاً، ينطلق منه في تنظيم غرائزه وميوله، على أساس الواجبات الإلهيّة؛ فإنّ أفعاله كلّها تصبح حينئذ عملاً أخلاقيّاً ومقدّساً، بلا فرق بين فعل وآخر، فيكون مصداقاً للآية: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ العَالَمِين} (الأنعام: 162). وعليه فلا يمكن تبرير الأخلاق إلا في ظلّ عبادة الله تعالى.
إذاً، فالشّهيد مطهّريO يقبل بنظريّة العقل ونظريّة الفطرة، ولكن ذلك مع عدم إغفال الجانب الإلهيّ والعباديّ، فهذه النّظريّة جامعة للنّظريّات السّابقة، فتكون هي المبرّر للسّلوك الأخلاقيّ والدّافع نحوه، بمعنى أنّه إذا أدرك الإنسان ذاته الحقيقيّة -الّتي هي نفحة من عالم الملكوت-، فإنّه لا ينحطّ إلى المستويات الدّانية، فلو سئلت: لماذا ينجذب الإنسان نحو العلم وينفر من الجهل؟ نقول: لأنّه عرف أنّ ذاته الحقيقيّة هي من سنخ العلم، ولا تتناسب مع الجهل، حيث إنّ مصدر هذه الذّات هو الذّات الإلهيّة العالمة. ولو سئلت: لماذا يلتذّ الإنسان بالقدرة وينفر من الضّعف؟ نقول: لأنّه يدرك بإدراك حضوريّ أنّ ذاته تنتمي إلى عالم القدرة والعظمة. ومن هنا، كانت جميع المشاعر الأخلاقيّة ناشئة من الظّفر بالذّات وإدراك حقيقتها، ولهذا تميّزت الأخلاق الإسلاميّة، بكونها متمحورة حول معرفة النّفس، والإحساس بكرامتها وعظمة مصدرها وهو الذّات الإلهيّة.
قد تقول: بأنّنا نجد الأخلاق في المجتمعات غير المتديّنة أيضاً، والوقوع خير دليل على الإمكان كما يقولون، فوقوع هذه الأخلاق عند المجتمعات غير المتديّنة، يكشف وجود أخلاق بمعزل عن التّديّن والإيمان بالله تعالى، فكيف تقولون بأنّ عماد الأخلاق هو الله تعالى والدّين الإلهيّ؟
يقول الشّهيد مطهّريO: "إنّ ما نراه في تلك البلدان، أنّه من الأخلاق بحسب الظّاهر، إنّما هو صورة أخلاق، وليست هي أخلاق متجذّرة في النّفس؛ لأنّه لا يمكن أن تكون الأخلاق متجذّرة في أعماق الإنسان، إلّا في ظلّ الدّين والإيمان بالله تعالى".
وتوضيح ذلك: أنّ ما نراه فعلاً أخلاقيّاً، في بعض المجتمعات غير المتديّنة، إنّما يرجع في الحقيقة إلى حبّ الذّات وعبادة (الأنا)، وعبادة الأنا عندهم تكون على مراحل:
المرحلة الأولى: الأنا الشّخصيّة
بمعنى أنّ صاحبها لا يرى إلّا ذاته، فهو يعيش لكي يؤمّن سعادة ذاته فقط، ولا يهمّه شيء غير ذاته، حتّى لو كان ذلك على حساب الآخرين. ومن الواضح أنّ هذا لا يمتّ إلى الأخلاق بصلة.
المرحلة الثّانية: الأنا العائليّة
بمعنى أنّ دائرة الأنا هنا توسّعت قليلاً، فشملت أفراد عائلته فقط، ولذا تجده صادقاً وأميناً وعطوفاً في نطاق عائلته فقط، ويسعى لتأمين سعادة عائلته فقط، وأمّا خارج هذا النّطاق، فهو يكذب ويحتال وينهب، ويتوسّل بكلّ طريق لجلب المنفعة له ولعائلته. وهذا أيضاً لا يمتّ إلى الأخلاق بصلة؛ لأنّ الأخلاق كملكة لا يمكن أن تتجزّأ وتتخلّف، وإلّا فحتّى قطّاع الطّرق واللّصوص لا يخونون بعضهم بعضاً، ولا يسرقون بعضهم بعضاً، بل نجدهم يتعاونون في بعض أمورهم، بل قد يُؤثِر أحدهم صاحبه في بعض الأموال الّتي سرقها، فهل يعدّ هؤلاء من أصحاب الأخلاق ويجب احترامهم؟!
المرحلة الثّالثة: الأنا الوطنيّة
وهنا تتوسّع دائرة الأنا أكثر من السّابق لتشمل الوطن فقط، فلأنّه يرى الوطن جزءاً من ذاته فهو لا يخونه، ولا يفرّط به، ولا يسفك دماء أفراد مجتمعه، أمّا إذا كان الأمر مرتبطاً بغير وطنه فهو لا يتورّع عن سفك الدّماء، ونهب الثّروات، وارتكاب أبشع الجرائم من أجل تأمين مصالح وطنه، كما هو حال الدّول الغربيّة، وما الّذي حدث في الجزائر من قبل فرنسا لخير مثال على ذلك، وكذلك ما فعلته أمريكا في اليابان، من إلقاء القنبلتين النوويّتين على هيروشيما وناجازاكي، وما فعلته بريطانيا في الصّين الّتي حاربتها؛ من أجل أن تقبل الأخيرة دخول الأفيون إلى بلدها، ومن ثمّ يتفاخرون بأنّها إنجازات وطنيّة! وكلّ ذلك لا يمتّ إلى الأخلاق بصلة؛ لأنّ الأخلاق كملكة لا بدَّ أن تكون متجذّرة غير قابلة للتّجزئة.
إذاً، فالأخلاق لا تكون ذات قيمة ولا تكون متجذّرة في أعماق الإنسان، إلّا إذا ارتبطت بالإيمان بالله تعالى والدّين الإلهيّ، وهي لا تفرّق بين مجتمع وآخر، وبين زمان دون زمان.
النّقطة العاشرة: تداعيات وآثار نظريّة نسبيّة الأخلاق 
إنّ تبنّي أيّ نظريّة من النّظريّات الأخلاقيّة، لا بدَّ أن ينعكس على سلوكيّات الفرد والمجتمع، فالمسألة ليست مسألة بسيطة وسهلة، بل هي مسألة خطيرة ترتبط بتشكيل هويّة وثقافة الفرد والمجتمع، فلا بدَّ من التّدقيق والتمحيص في هذه النّظريّات الأخلاقيّة، ولا ننساق وراء كلّ نظريّة.
فما هي الآثار الّتي تترتّب على تبنّي نظريّة النّسبيّة الأخلاقيّة؟
يمكن أن نذكر مجموعة من الآثار المهمّة والحسّاسة:
الأثر الأوّل: طرح العديد من المسائل الاعتقاديّة
إنّ نظريّة النّسبيّة الأخلاقيّة، تؤدّي إلى إنكار مسألة الحسن والقبح العقليّين الذّاتيّين، وهذه المسألة لها ارتباط كبير، بإثبات العديد من المسائل الاعتقاديّة المذكورة في الكتب الكلاميّة، فلا يمكن إثبات الأديان وحقّانيّة دعاوى الأنبياء، وصدق الرّسالات بالعقل حينئذٍ؛ حيث إنّ من عمدة الأدلة على إثبات هذه المسائل هو دليل اللّطف العقليّ، وهو لا يتمّ مع إنكار الحسن والقبح العقليّين.
الأثر الثّاني: عدم التّقيّد بالتّعاليم الدّينيّة 
إنّ تبنّي نظريّة نسبيّة الأخلاق يؤدّي إلى عدم التّقيّد بالتّعاليم الدّينيّة؛ لأنّها -بناءً على هذه النّظريّة- تختلف من مجتمع لآخر، ومن زمان لآخر، فمثلاً فيما يرتبط بمسألة الحجاب، فلو وجدت امرأة في عائلة مسلمة، ودينها الإسلاميّ يُلزمها بالحجاب، ويرى أنّ التّقيّد بالحجاب فعلٌ أخلاقيّ، ولكن هذه المرأة لو عاشت في الغرب، الّذي يرى بأنّ الفعل الأخلاقيّ في إبراز مفاتن المرأة وعدم سترها، فهنا هذه المرأة إذا تبنّت نظريّة النّسبيّة الأخلاقيّة سوف تترك حجابها بسهولة؛ باعتبار أنّ الحجاب أمر أخلاقيّ عند عائلتها وفي بلدها، وليس هو كذلك في هذا البلد الغربيّ. وهكذا العديد من التّعاليم الدّينيّة.
الأثر الثّالث: اختلال النّظام وعدم وجود قانون متّفق عليه بين المجتمعات
بناء على نظريّة النّسبيّة الأخلاقيّة، يصعب تبرير فرض القوانين على الآخرين، فالفرد الجاني يمكنه أن ينسب فعله وجنايته، إلى أخلاق مجتمع معيّن وبالتّالي لا يستحقّ العقوبة، فيقول مثلاً: إنّ هذا الفعل الّذي صدر مني هو فعل أخلاقيّ عند المجتمع الفلانيّ، فهذه المجموعة تعتقد بأنّ هذا الفعل الّذي قمتُ به هو عمل أخلاقيّ، وبالتّالي يوجّه فعله توجيهاً أخلاقيّاً فلا يستحقّ العقوبة!!
أو مثلاً لو كانت هناك جماعتان في نفس المجتمع، وكلٌّ منهما اختلفتا في أمر أخلاقيّ، فبناءً على نظريّة النّسبيّة الأخلاقيّة كيف يُبرّر فرض قانون يعاقب إحدى هاتين المجموعتين؟! فتبنّي نظريّة النّسبيّة الأخلاقيّة لا بدَّ في الأخير من أن يفرز الاختلافات والمشاكل في المجتمعات، وهذا يؤدّي إلى ضعف الإدارة وخرق القوانين لا محالة، ويؤدّي إلى الهرج والمرج، وإن حاول أصحاب هذه النّظريّة إضافة القيود تلو القيود؛ لدفع هذه التّناقضات الّتي تحصل في المجتمع، إلّا أنّ كلّ هذه القيود بلا مبرّر منطقيّ.
وتجدر هنا الإشارة إلى المفارقة العجيبة، عند الدول التي تدعو للالتزام بالإعلان العالميّ لحقوق الإنسان؛ حيث إنّ هذه الدّول الرّاعية والدّاعية للالتزام بهذا الإعلان والقانون، هي دول تتبنّى نظريّة نسبيّة الحقيقة ونسبيّة القيم والأخلاق، يعني هي لا تؤمن بحقيقة وأخلاق مطلقة وثابتة، إلّا أنّها في الوقت نفسه تريد فرض هذا الإعلان، وهذا القانون على كلّ دول العالم، حتّى تلك الدّول الّتي لا تتوافق معتقداتها وأخلاقها مع هذا الإعلان!! ولذا نقول بأنّ حتّى الّذين يتبنّون نظريّة النّسبيّة الأخلاقيّة من ناحية نظريّة، لا يستطيعون تطبيقها من ناحية عمليّة، ويلتزمون التزاماً تامّاً بها.
الأثر الرّابع: التحلّل الأخلاقيّ والانسلاخ عن الإنسانيّة 
يتصوّر البعض أنّ في تبنّي نظريّة نسبيّة الأخلاق، سوف يصل إلى السّعادة والعيش الرّغيد، والحال أنّ تبنّي نظريّة النّسبيّة الأخلاقيّة، يؤدّي إلى التّحلّل الأخلاقيّ والانسلاخ عن الإنسانيّة، كما هو المشاهد اليوم، في كثير من المجتمعات المؤمنة بهذه النّظريّة.
وما الدّعوات الّتي نسمعها اليوم، إلى تقبّل موضوع المثليّة الجنسيّة إلّا خير شاهد على ما نقوله، فالمثليّة مسألة ترفضها الفطرة الإنسانيّة، وهي كذلك عند كلّ المجتمعات، إلّا أنّه بعد أن تبنّت هذه المجتمعات والدّول فكرة النّسبيّة الأخلاقيّة، وصارت أسيرةً لها، فكان لزاماً عليها من أن تجعل فطرتها تحت أقدامها، وتُسلّم لنتائج نظريّة النّسبية الأخلاقيّة، حتّى لو خالفت فطرتها ووجدانها؛ حيث -كما قلنا سابقاً- بأنّ من أصول نظريّة النّسبيّة الأخلاقيّة عدم مقاضاة أخلاق الآخرين، وأنه لا يمكن التّشنيع على أخلاق الآخرين، فهذه المجتمعات والدّول ملزمة بتقبّل هذا الموضوع الفاسد، وما هذا إلّا لفساد نفس هذه النّظريّة.
الأثر الخامس: هيمنة قوى الاستكبار على المجتمعات
بعد تبنّي نظريّة النّسبيّة الأخلاقيّة، يكون من السّهل جدّاً على دول الاستكبار العالميّ، التّأثير في المجتمعات والتّلاعب بالقيم؛ حيث إنّ النّسبيّة الأخلاقيّة تفترض أنّ الأخلاق تابعة، لقبول الأكثريّة لها في المجتمع، ومن الواضح جدّاً أنّ من يمتلك الماكنة الإعلاميّة القويّة، يمكنه التّأثير على المجتمعات بسهولة، فيجعل ما كان مرفوضاً أخلاقياً في السّابق أمراً مقبولاً اليوم، فتتمّ السّيطرة على عقول المجتمعات، ومن ثمّ التّغلغل فيها ونهب خيراتها، وجعلها أسيرة تحت يدها.
وأوضح مثال على ذلك، هو مثال الشّذوذ والمثليّة الجنسيّة أيضاً، فلاحظ كيف أصبح هذا الأمر مقبولاً عند غالبيّة المجتمع الأمريكيّ مثلاً، بعد أن كان في الأمس القريب أمراً مرفوضاً، فهذا شاهد على دور الإعلام في التّلاعب بالقيم، متى ما شاء ومتى ما كان في صالح قوى المستكبرة، وهذا الأمر هو الّذي يراد تسويقه في مجتمعاتنا، حتّى بتنا نجد من يبرّر ويدعو لذلك في مجتمعاتنا للأسف الشّديد، غافلين عن خطورة هذا الموضوع.
ولكن مجتمعاتنا المؤمنة حصينة -إن شاء الله تعالى- عن مثل هذه الأفكار والانحرافات؛ بفضل تمسّكها بإسلامها ودينها، وبفضل جهود علمائها وأفرادها الخيّرين، الّذين لن يسمحوا لتغلغل هذه الأفكار الدّخيلة، والانحرافات إلى مجتمعاتنا.
نسأل الله تعالى أن يحفظ أمّتنا من كلّ سوء ومكروه، وأن يعجّل فرج إمامنا القائم المهديّ أرواحنا لتراب مقدمه الفداء، فهو الإمام المنتظر الّذي سيخلّص البشريّة من كلّ فساد وانحراف بإذنه تعالى.
والحمد لله ربّ العالمين


0 التعليق


ارسال التعليق

احدث المقالات

الاكثر زيارة

الاكثر تعليقا