مقدّمة:
بسم الله الرحمن الرحيم.
والحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين،
ضمن سياق غرض تخصيص هذا العدد لتناول ما يتصل بالشأن العاشورائيّ، ارتأت أسرة المجلّة أنْ تجري حواراً مع سماحة الشيخ رائد الستريB، وهو من علماء البحرين الفاعلين والنّشطين في الجانب العلميّ والتبليغيّ. فهو أستاذ في الحوزة العلميّة، وله تجربة طويلة ومستمرّة في إدارة المؤسّسات الحوزويّة، وهو خطيب حسينيٌّ، كما أنّه أسّس ويدير عدداً من مؤسّسات التعليم الدينيّ الفاعلة.
ولأجل ذلك تنوّعت الإثارات والأسئلة للضيف الكريم في شؤون ثلاثة: الشؤون العاشورائيّة، والشؤون التبليغيّة، والشؤون الحوزويّة.
وحيث لم يتسنَّ الاتصال المباشر بسماحة الشيخ ليكون الحوار شفهيّا تفاعليّاً، أرسلنا له الأسئلة، وتفضّل بإرسال أجوبته النافعة والمثمرة إن شاء الله تعالى.
وترتيب الكلام مع ضيفنا الكريم يقع في نطاقات ثلاثة تضمّ الأسئلة وأجوبتها:
النّطاق الأوّل: الشّأن المنبريّ والعاشورائيّ
السؤال الأول: بين تلقائيَّة الشعائر ودور الإرشاد المنبريّ
- إنّ ظاهرة الإحياء العاشورائيّ تلقائيَّة وغير خاضعة لتخطيط موحّد ومركزيّ، بمعنى أنَّ الناس بشكلّ عفويّ تشارك ثواب الإحياء، تخطيطاً وابتكاراً وعملاً. وهذا يعني أنَّ مسؤوليَّة العلماء تتمثَّل في المتابعة المستمرّة والتعزيز للمظاهر التي يصدق عليها عنوان الشعيرة الدينيّة، والترشيد والتصحيح لما يشوبه بعض التجاوزات، ومواجهة ما هو غير صالح في أصله.
- إلى أيِّ مدى تجدون المنبر الحسينيّ في البحرين فاعلاً في القيام بشيء من هذا الدور؟ وهل هناك نماذج تودّون الإضاءة عليها من هذه الأدوار؟
الجواب:
القارئُ المتابع لجذور الإحياء العاشورائيّ، يدرك بأنّ انطلاقة الإحياء العاشورائيّ لم تكن عفويَّة في جذورها، بل كانت بنحوٍ من التخطيط والإعداد من قبل أهل البيتi، وإنفاذٍ لما أراد الله a.
وذلك من خلال رسم الأهداف المرجوَّة للإحياء أولاً، ثمَّ ثانياً تحديد أهمّ الوسائل لتحقيق هذه الأهداف، ثمَّ ثالثاً الدفع المعزّز والمؤكّد للأمة للأخذ بهذه الوسائل وتناقلها جيلاً بعد جيل.
والروايات في ذلك كثيرة منها:
عن أبي عبد الله عليهg: >رحم الله شيعتنا، شيعتنا والله هم المؤمنون، فقد والله شركونا في المصيبة بطول الحزن والحسرة<([1]).
وعن أبي عبد اللهg: >...وما عين أحبّ إلى الله ولا عَبْرَة من عين بكت ودمعت عليه، وما من باكٍ يبكيه إلّا وقد وصل فاطمة وأسعدها عليه، ووصل رسول اللهe، وأدّى حقّنا، وما من عبد يُحشر إلّا وعيناه باكيَّة إلّا الباكين على جدّي الحسينg، فإنّه يُحشر وعينه قريرة والبشارة تلقاه والسرور بيِّن على وجهه، والخَلْق في الفزع وهم آمنون، والخَلْق يُعرَضون وهم حُدّاث الحسينg تحت العرش وفي ظلّ العرش، لا يخافون سوء يوم الحساب، يقال لهم: ادخلوا الجنّة فيأبون ويختارون مجلسه وحديثه، وإنّ الحور لترسل إليهم: إنّا قد اشتقناكم مع الولدان المخلّدين، فما يرفعون رؤوسهم إليهم لما يرون في مجلسه عليه السلام من السرور والكرامة<([2]).
فكلّ هذا الذي ذكرناه يؤكِّد عدم عفويَّة نشوء الإحياء العاشورائيّ.
ولو نظرنا لمرحلة الاستمرار في الإحياء من قبل المؤمنين، سنجد كمّاً كبيراً من الإعداد والتخطيط لهذا الإحياء، ومساهمّة كبيرة من فئات متعدِّدة في رسم طريقته، من نخبٍ ثقافيَّة وفكريَّة وعلمائيَّة، كبيرة وصغيرة، رجاليَّة ونسائيَّة.
وهذا انعكس على مظاهر الإحياء تنوّعاً وتعدُّداً، وتطوّراً وتكاملاً، وتفاعلاً وزخماً، وكلُّ ذلك يسير نحو تحقيق الأهداف التي رسمها أهل البيتi.
- إذن أين يكمن الخلل؟
إذ رغم وجود التخطيط والإعداد، والتنوّع والتعدّد، وإفساح المجال للنّخب الثقافيَّة للمشاركة، نجدُ مظاهرَ لا تسير في الاتجاه الصحيح لتحقيق الأهداف المنشودة، وكأنّها أضاعت الطريق، بل ومظاهر تتعاكس مع الاتجاه وأسوء!
وذلك عندما يحاول البعض الأخذ بيد الآخرين لحرف المسيرة، وتغيير اتجاه البوصلة، بممارسة أساليب بيع الوهم، وصناعة التعصّب المضل.
- فلماذا كلُّ ذلك؟
عند ملاحظة المظاهر المضرّة بمسيرة الإحياء العاشورائيّ، يمكن لنا أن نحلّل أسباب وجودها بما يلي:
- انحرافٌ في الإخلاص لله ولأهل البيتi:
إنَّ محور قيمة الأعمال لدينا وعلوّها، هو قصد مرضاة الله -سبحانه-، ومرضاة أهل البيتi >رضا اللّه رضانا أهل البيت<([3]) ، ومتى ما فقدَتْ هذا المحور فلا قيمة لها.
عن سفيان بن عيينة، عن أبي عبداللهg ـ في حديث ـ قال: >الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عز وجل<.
ورُوي: سألته عن قول اللهa : {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء:89)؟ قال: >السليم الذي يلقى ربه وليس فيه أحد سواه، قال: وكلّ قلب فيه شك أو شرك فهو ساقط، وإنما أرادوا بالزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة<([4]).
والملاحظ على بعض مظاهر الإحياء تسلّل أصحاب المصالح الخاصة، والمطامع الشخصيّة، والتي لا قصد فيها لله، ولا للحسينg وأهل البيتi، همّهم الظهور والشهرة، أو المال والجاه.
ولعل البعض يقول: إنّ هذا خوض في النّيات التي لا بُصر بها ولا علم إلا من الله، واتهام لا يجوز للمؤمنين.
إنّنا نتفق طبعاً على عدم توجيه الاتهام لأفراد بعينهم كي لا نقع فيما ذكر محذور. غير أنّ وجود هذه الفئة ممّا لا يمكن إنكاره -في الجملة- لأيّ متابع للنتاج العاشورائيّ، سواء في المنبر أو الموكب أو المأتم وغيرها.
وأجد أنّ المبالغة في حسن الظنّ، جعلت من البعض يتمادى دون خشية ولا خجل في ذلك، بل وأصبح يتباهى في جلساته بفعله، ويتفاخر بنتاجه، في سلوك مرفوض، أو لا أقل غير ممدوح.
وهذا ممّا جعل الآخرين -من البسطاء- يجاريه في طريقته في التباهي والتفاخر، لتُصنع بذلك مظاهرُ لا يراد منها إلا السمعة والشهرة، ويشوبها الرياء والنّفاق، لتبتعد كلّ البعد عن مرضاة الله سبحانه وأهل البيتi.
ولذلك نحن بحاجة للنقد العامّ المجمل الذي يوجد خوفاً وقلقاً، ويوقظ الغفلة والبساطة، دون أنْ نشكّك في نيّات أحبتنا من المخلصين الذين قد يخونهم التعبير أحياناً، أو يستهدفهم المغرضون الحاقدون لتسقيطهم والنيل منهم.
2. عبث المغرضين:
المتأمّل في الحجم العظيم الذي وصلت له عاشوراء الحسينg من عطاء كبير، وإحياء للنفوس، وأمر للمعروف ونهي عن المنكر، وتقويم لمسيرة الفرد والمجتمع، وغير ذلك من بركات وفيوضات شاملة ومتنوّعة مرتبط بتفاصيل عديدة، يدرك أنّها لا يمكن أن تبقى محلاً للتجاهل دون استهداف من المغرضين الحاقدين على أهل البيتi.
وأيضاً عندما نتأمّل فيما تحقّقه عاشوراء الحسينg من تدمير وإفساد لمخطّطات الأعداء والاستكبار العالمي الغربي، يجعلنا نجزم -بلا شك- بأنّهم لن يبقوا دون تحريك أصابع عبثهم بمظاهر الإحياء العاشورائيّ.
ولذا نجد من المهم جدّاً أن ندرك هذا الأمر، وأن يرتفع مستوى الوعي لنعي أنّ عبث العابثين أولئك، قد يكون مباشراً، وقد يكون من خلال وكلاء مجنّدين، أو من خلال حمقى غافلين.
فكم من جهد بذله الأعداء -وما زالوا- لتحطيم الولاء لأهل البيتi. مثلاً، يتحطّم في ملحمة الإحياء العاشورائيّ في كلّ عام، جهود وأموال، وموظفون وطاقات، وفضائيات وقنوات، ومفكّرون ومأجورون ومرتزقة، وخائنون ومنافقون وو..، كلّها تذهب وتضيع بذكر الحسينg وأهل البيتi.
3- نزعة الفردانيَّة:
هناك جهات خلل في الإحياء نابعة من فردانيَّة يعيشها البعض، من خلال اعتداد بالذات، لدرجة يرى نفسه الفرد الأوحد والأكمل والأفهم، فلا يعتمد في صناعة محتواه على قاعدة علميَّة وفكريَّة بُنيت في ذاته من تعلّم وتدارس وقراءة واعية، بل على توليد ذاتي لجهل مركّب بسبب غرور الذات وكبرها، ليعتقد وكأنّه يوحى إليه أو يمتلك علماً لدنيّاً.
لينتج بعد هذه النزعة مظاهرَ سيّئة منحرفة، سواء في المنبر أو الموكب أو المأتم وغيرها، ولا يقبل بنقدها ولا الحديث عنها، وتراه يتأبّى ليستعصي على التقويم والإصلاح، بعد سدّه لكلّ ثغرات ومنافذ التقويم والإصلاح للذات.
4- اجتهادات الجهلاء:
رغم ما ذكرنا من تضافر جهود فئات نخبويَّة واعية، تُسهم في مظاهر الإحياء العاشورائيّ المختلف، من خلال تقلُّدها لمواقع مهمّة في المؤسسات واللّجان، غير أنّ هناك مواقع يشغلها جهلاء، ويتقلّدها غير أكفاء، أو يحاول النهوض بها غير ذي خبرة أو شاب متعجّل منفعل، دون توجيه أو متابعة.
وبعد كلّ ذلك نعود لصلب السؤال وجزئه الأهمّ، وهو المرتبط بموقع العلماء.
- أين يقف العلماء من كلّ ذلك؟ وما هي إسهاماتهم في ضبط الإحياء العاشورائيّ؟ وما هو دور المنبر في التصدّي للصور المنحرفة التي لا تلتقي وأهداف عاشوراء؟
العلماء لا يألون جهداً في توجيه الناس وإرشادهم، بتقديم الوعظ والإرشاد، من خلال كلماتهم ومنابرهم وكتاباتهم ولقاءاتهم وغير ذلك.
وإذا ما قمنا بالرصد من ناحيَّة الكم، فإنّنا نجد كمّاً كبيراً جدّاً، يعكس حجم الجهد الكبير الذي يبذله العلماء.
غير أنّ الإشكاليَّة ليست من هذه الناحيَّة -من وجهة نظري-، بل من جهات أخرى يمكن إيجازها فيما يلي:
1. عدم وجود ما يوصل الجهد والنتاج العاشورائيّ الكبير لكلّ فئات المجتمع.
2. انتقائيَّة التغطيات الإعلاميَّة وضعفها، فهي مقتصرة على جانب من النتاج العاشورائيّ كالنّعي والعزاء، أو على فئة معيّنة وغياب الفئة الأخرى.
3. اتّباع سياسة صناعة (الترند) بنحو من الإثارة، والاستفزاز، والتصنّع، لا على قيمة ما يصنع المحتوى من حياة للنفوس والعقول.
4. حيث إنّ قاعدة الإحياء العاشورائيّ وجمهوره عريضة جدّاً، فحتى ضعاف التديّن لهم عاشوراء وإحياء خاص بهم، يكونون هم الصنّاع له.
وبذلك نجد فئة من الناس لا تحتفظ بمكانة عاليَّة للعلماء والخطباء، ولذا لا تتابع ما يقولونه، ولا ما يرشدون إليه، ولا تَنقاد لأقوالهم، فيغيب صوت المنبر العلمائي في مواقعهم، ونجد التجاوزات تتحرّك بينهم.
5. المتابعة والمسايرة للصوّر المشوّهة من الإحياء والتغافل عنها، من قبل النخب الإيمانيَّة والعلماء مع الأسف، بدواعٍ عديدة، قد تبرّر فعلاً عدم النقد العام العلني، غير أنّه لا يجب أن تكون مبرّراً لغياب الكلمة الحقّة، ووسائل التقويم والتوجيه الأخرى.
كلّ ذلك مضعِّفات للدور العلمائيّ، ومضيّعات للنتاج المنبريّ الواعي.
السؤال الثاني: خصائص المجتمع ومظاهر الإحياء
- إنّ الإحياء بوصفه ظاهرة دينيَّة اجتماعيَّة، لا بدّ وأن يكون للمجتمع المعيّن وخصائصه لمساتٌ خاصّة تعبّر عنه؛ ذلك أنّه دخيل في تحقيق بعض موارد الإحياء التي هي موضوع للموقف الشرعي من الاستحباب وغيره من الآثار. وإذا كان كذلك، يمكن تصوّر أن تكون بعض الممارسات الإحيائيَّة صالحة في مجتمع شيعي دون آخر، ولكن مساحة التلاقي والتواصل جعل سريان الممارسات الإحيائيَّة وانتشارها لا بشرط من حيث صلوحيَّتها كشعيرة في المجتمع الخاص، بل بشرط حضورها في الرأي العام بين المجتمعات الشيعيّة، وبروزها الفنيّ والأكثر تأثيراً في وسائل الإعلام، وغيرها من الأسباب.
والحال هذه، كيف يمكن الحدّ من حجم هذه المشكلة؟ وهل هي مشكلة أصلاً؟ أم هي أمر طبيعيٌّ لا داعي لمزيد تضخيمه ويمكن أن يرشّد مع الأيام؟
الجواب:
وسائل جديدة فرضت واقعاً جديداً
لقد تعدَّدت وسائل التواصل الاجتماعي في العالم ككلّ، وتبعاً لذلك في الوسط الشيعيّ، لتفرض نفسها أيضاً على طريقة إحيائنا لعاشوراء، وليتمكّن كلّ النّاس على اختلاف بلدانهم وألسنتهم وأعراقهم، من التواصل فيما بينهم، فانخلقت لغة مشتركة.
وكذلك كان لتطوّر الحياة وسهولة النقل والوصول للمشاهد المشرّفة، والزيارة الأربعينيَّة المليونيَّة، دور كبير في التقاء الشيعة مع اختلاف بلدانهم وأعراقهم ولغاتهم، وتعزيز الأواصر وبناء العلاقات، وتناقل التجارب، وجعل من السهل التوصّل لكلّ النتاجات الإحيائيَّة للشيعة في كلّ أرجاء العالم، من عزاء، ونعي، وقراءة، ونتاجات صوتيَّة، وصوريَّة مرئيَّة وغيرها.
ولقد تمكّن البعض من خلال قوّته وذكائه وإبداعه، من إنتاج نتاج يستقطب كلّ الشيعة، وقدرة على مخاطبتهم، مستفيداً ممّا يملك من جمال صوت أو عمق فكرة وجمال بيان، أو ضخامة إنتاج وتوزيع وإمتاع بصري، وغير ذلك.
ولا غرابة بعد الالتفات إلى من نتحدّث عنهم، وهم: الشيعة الذين يرتبطون برابط يكفل تذويب كلّ الفروقات وتقريب بُعد المسافات، وذلك الرابط هو رابط الولاء والحبّ لأهل البيتi.
ولهذا أقول: إنّ هذه الأمور الثلاثة:
1. التطوّر الكبير في وسائل التكنولوجيا والتواصل الاجتماعي ووجود الفضائيات الشيعية.
2. وجود الكفاءات العاليَّة في كلّ قوم من الشيعة، واستعمالهم للغة عامة تصل للجميع.
3. ذوبان الفوارق بين الشيعة لما يتمتّعون به من رابط الولاء والحبّ لأهل البيتi.
كلّ ذلك مكّنت الخطيب والرادود العراقي -مثلاً- من أن يصل للساحة البحرانيَّة، وكذلك بالعكس، كما والأمر ذاته لكلّ الخطباء والرواديد من كلّ الأقطار.
لا يمكن رفض هذا الواقع الجديد
وهذا أمر لا يمكن إيقافه، ولا نهي الناس عنه، بل تجد الجمهور في البحرين قد يطالب في بعض الأحيان بمجاراة طريقة عراقيَّة، أو قصيدة لبنانيَّة رائجة وغير ذلك.
وها نحن نرى المضائف وغيرها تصدح بصوتيات لرواديد عراقيّين، وقطيفيّين، وإحسائيّين، بجانب الرواديد البحرانيّين.
ولذا أدعو لعدم التحسّس من كلّ ذلك، بل هذا الواقع إثراء وتنوّع يضفي الكثير من الجمال والارتقاء بمظاهر الإحياء.
كما وأرى أنّ المنتِج (الخطباء والرواديد) للنتاج المنبري والعزائي (المحلّي) في كلّ دولة، يجب أن يأخذ بحسبانه هذا الواقع الجديد ويتعامل معه، وأن المتلقّي ليس بين يديه فقط خطباء ورواديد بلده، بل هو متابع لكمٍّ كبير من الخطباء في العالم الشيعي.
خطأ التغييب والتنكّر
ولكن ما يمكن تسجيله من ملاحظة في هذا الاتجاه، محاولات بعضٍ في تغييب النتاج المحلّي، أو تخطّي الموروث الخطابي والعزائي للبلد والتنكّر له، من خلال طمسٍ للطريقة أو تغييبٍ للقصيدة البحرانيَّة، أو تغييرٍ تامّ للصناعة البحرانيّة.
والأسوء من ذلك إدخال طرائقَ من الإحياء مستوردة ومهجّنة، لا تتمتَّع بإمضاء شرعيٍّ، ولا قبول مجتمعيٍّ، بحجَّة أنّ بعضاً من الشيعة ابتكرها ويقومون بها في أقصى الأرض.
ولا أدري ما المبرّر لذلك، في حين أنّ ما ورثناه عن الآباء والأجداد من طرائق ووسائل في هذا البلد الطيّب لهو من أظهر مصاديق الإحياء والارتباط بالحسينg وأهل البيتi، وأكثرها نقاءً وثواباً، فلِمَ ندعُ ما هو بيّن واضح في نقائه وصفائه وسلامته إلى ما فيه شبهة وارتياب وإشكال؟!
اعتزاز وافتخار بموروث الأجداد
ولذا ما نحتاجه للحدّ من الخروج عن الطريقة المعروفة المشهورة المتوارثة في بلدنا، التالي:
1. تعزيز الافتخار والاعتزاز بطريقة الآباء والأجداد في إحياءاتهم المتنوّعة، ورفع الصوت بذلك على جميع الأصعدة، لممارسة قوة ضاغطة تساعد في المحافظة على الطريقة، والاحتفاظ بجمهورها وقاعدتها.
2. التصدّي لكلّ ممارسات شاذّة مرفوضة، ولو حاول البعض إضفاء الصبغة الشعائريَّة عليها.
3. اليقظة الدائمة لما يجري من حولنا كي نضبط الأمور ولا نُؤخذ بالغفلة، ولتكون المعالجة لها مبكّرة وسريعة.
4. توريث الطريقة للأجيال اللاحقة من خلال نقلها بنحو من الجودة والإتقان، من خلال التدارس مع الجيل السابق المتقِن لها.
السؤال الثالث: المنبر ووسائل الإعلام
- لم يعد الخطيب يمارس نشاطاً منحصراً في مأتم ما، وبين جمهور محدود ومعروف لديه فحسب، بل جاءت الأدوات الإعلاميَّة ووسائل التواصل، لتمدّ تأثيره إلى مديات واسعة، ومستمرة زمناً، وبشكلّ غير منظور وغير ممكن التنبّؤ بتفاعلاته الخوارزميَّة على برامج وسائل التواصل. وبين كونه فرصة لإيصال الرسالة وتحدّياً لكون المقال يتخصّص بمقام ما دون غيره، كيف تستشعرون هذه الظروف الجديدة وتأثيرها على الخطيب وخطابه المنبري؟
وكيف له الاستفادة القصوى من هذه الفرص الإعلاميَّة، والتي عادة لا تكون خاضعة لنظره وإرادته؟ وكيف يتجنّب مآلاتها السلبيَّة أحياناً؟
الجواب:
يحتاج الخطباء والمبلّغون في هذا الوقت لمهارات جديدة بالإضافة للمهارات المعروفة، فلقد انوجدت أدوات تبليغ أكثر تأثيراً وشمولاً، وأوسع وأعرض جمهوراً.
فمثلاً كلمة المسجد كانت تصل لجمهور محدود في المسجد، بينما الآن بنقلها في وسائل التواصل الاجتماعي تصل لجمهور عريض جدّاً.
غير أنّ ظهور الكلمة عبر وسائل التواصل الاجتماعي وانتشارها، يعتمد على إنتاج مختلف عن الإنتاج المسجديّ، في طريقته، ومدّة إلقائه، والفكرة المعروضة وغير ذلك.
وهذا يتطلّب مهارة في الاختصار، وقدرة على مواجهة جهاز التصّوير، ومعرفة بالمواضيع المتناسبة والطرح، وعلاقات في النشر عبر المنصّات المتعدّدة.
ولذلك نجد رواجاً لبعض المبلّغين عبر منصّات التواصل رغم الضعف في المستوى العلميّ، وما ذلك إلا لإجادتهم لتلك المهارات، بل وإنّ بعضهم -كما أشرتم- يستعين بالترويج عبر الخوارزميّات من خلال الاستعانة بمجموعات إعلاميَّة مختصّة، وهذه الطريقة (لها وعليها).
ومن هنا أعتقد في ظلّ غياب القيادة العلمائيَّة الإعلاميَّة سنبقى مع جهود فردية، خاضعة للاجتهادات الشخصيَّة التي قد تصيب وقد تخطئ.
السؤال الرابع: التحقيق التّاريخيّ
- نشطت في الآونة الأخير محاولاتٌ للتحقيق التاريخيّ والعلميّ في وقائع وأحداث ثورة الإمام الحسينg، وولّد بروزها نوعاً من الجدل والنقاش العلميّ الطبيعيّ، في إثبات حدث معيّن وإنكاره، أو تحليله أو تحديد آثاره، ولم يكن ذلك حبيس الأوراق العلميّة، بل حضر بوضوح على المنبر.
- كيف تقيّمون تأثير هذه الحركة العلميَّة ونشاطها على الخطيب اليوم؟ وهل بات الخطيب في زمنٍ أكثر محاولة للتثبّت من سرده التاريخيّ؟
- وهل تأثّر مزاج المتلقّي اليوم إيجاباً وولّد لديه حالة من النقد والتساؤل ومحاولة الحصول على الموثوقيّة؟
الجواب:
هناك اتجاهات سائدة في المجتمع، ولكلّ اتجاه مناصرون ومؤيّدون، لا يدّخرون جهداً في محاولة نشر وجهة نظرهم، وتغليب اتجاههم على الآخر.
وهذه الاتجاهات يمكن لنا تلخيصها في ثلاثة، هي:
الاتجاه الأول: اتجاه التّشكيك والرفض
حيث تجد أتباعه يشكّكون في كلّ حدث تأريخيّ، ويعمدون إلى نفيه، ويحاولون تشكيل قوة ضاغطة على الخطباء والرواديد، ليس فقط في التشكيك في الحدث، بل ورفض نقله أو سرده على المنبر، بحجج يمكن تلخصيها فيما يلي:
1. ضعف الروايَّة لضعف رجال سندها، أو لإرسالها، أو لضعف الكتاب الناقل لها، وغير ذلك.
2. مخالفة الروايَّة لذوقهم المرسوم للأحداث التاريخيّة، واستبعادهم لصدورها من المعصوم، لما رسموه من ذوق عقلائيّ يرونه الأوفق والأكمل.
3. وصم الحدث التأريخيّ بالخرافة، والمبالغة، والخيال المستبعد.
4. عدم تفاعلهم مع الجانب العاطفيّ والبكائيّ، وحيث لا يستطيعون التصريح بذلك، فتراهم يلجئون إلى التشكيك في السرد التأريخيّ، والذي يعد (السبب المثير) بدلاً من نقد (المسبّب).
الاتجاه الثاني: اتجاه القبول والاستعصاء
وهذا الاتجاه يعمد أصحابه إلى رفض أيّ تغيير في سرد السيرة الحسينيّة، وعدم قبول أيّ تحقيق لأيّ حدث متوارث لدى أرباب المقاتل وأصحاب السير.
ويرتكزون في ذلك على قناعات ووسائل، هي:
1. السيرة التأريخيَّة للمنبر الحسينيَّة متوارثة من كابر لصاغر، ويستبعد نقلهم للحدث دون توافر قرائن لديهم أوجبت القطع أو الاطمئنان بالحدث التأريخي.
2. الأحداث الحسينيَّة لها قداسة، فلا بدّ أن تكون لها حصانة فلا تُمَسّ، وهذا من يعطي حالة من الخوف والرهاب لأيّ قلم يحاول التحقيق فيها.
وتراهم يهوّلون من عواقب التحقيق، ويضخّمون من الآثار، وينعتون المحقّقين بألفاظ عديدة لإسقاطهم من أعين الناس -مهما استطاعوا ذلك- لإسقاط جهدهم العلميّ بالتبع.
3. تحريك العواطف بدغدغتها، واستقطاب الناس بعناوين مقدّرة عقائديّاً غير أنّها موظّفة بشكل مغلوط، كمثل الشعائر والولاء، والبكاء والتباكي.
4. اتّهام أيّ جهد تحقيقيّ بأنّه السبب وراء تجفيف الدمعة في المآتم.
وهذان الاتجاهان يضُرّان بالمنبر الحسيني، وبإحياء الموسم، لتجد الموسم في كلّ عام يدخل في مهاترات تافهة لا معنى لها، وليس لها قيمة علميَّة أو معرفيَّة، سواء من أصحاب الاتجاه الأوّل أو الثاني.
فيضيع الكمُّ الكبير، والنتاج العظيم، لخطباء المنبر، ويظهر الموسم العاشورائيّ إعلامياً بمظهر ضعيف جدّاً، نتيجة انشغال الناس بهذه الإثارات، ولقد مَلَّ الناس وسأموا هذه الأفعال.
الاتجاه الثالث: اتجاه التحقيق المعتدل
وهو الاتجاه الذي يعالج الأحداث التأريخيَّة معالجة علميَّة متّزنة، معتمداً في ذلك الوسائل العلميَّة الرصينة، لتراه يرفض ما يمسّ بضرورة عقليّة، أو عقيدة مسلّمة، مبتعداً عن المزاجيَّة والذوقيَّة في معالجة الأحداث التأريخيًة.
مع عدم رفضه لنقل حدث تأريخيّ محتمل لا يلزم منه محذور، ما دام هناك احتمال لحدوثه، فعدم ثبوته لا يعني الرفض لنقله، ما دام لم يلزم منه مخالفةٌ لضرورة عقليَّة أو عقائديَّة أو شرعيَّة ونحوه.
غير أنّ هذا الاتجاه ضاع بين الناس، وذلك لشراسة أصحاب وأنصار الاتجاهين السابقين، حيث لا يقبله أصحاب الاتجاه الأول الذي لا يرضى بنقل الروايَّة المحتملة، ولا يرضاه الاتجاه الثاني حيث لا يقبل بوصف أيّ حدث جرى على لسان الخطباء بأنّه غير ثابت.
وبلا شك وجود هذه الاتجاهات بشكلّ عام يُفسد على الخطيب منبره، وذلك إمّا لأنّ الخطيب نفسه يتّبع أحد هذه الاتجاهات، وإمّا أن تكون التبعيَّة للاتجاهات لدى المستمعين أنفسهم، لتجد المجلس الحسيني تتجاذبه الاتجاهات، لتتعقّد وظيفة الخطيب، الذي يستعصي عليه إرضاء الأذواق كلّها.
فلو جرى على السيرة القديمة بحذافيرها، لرفع أصحاب الاتجاه الأول سيوفهم وأصواتهم، ولو حذفها لرفع أصحاب الاتجاه الثاني سهامهم وعلت حناجرهم.
ولذا ما نقوله: أعان الله الخطباء والرواديد على ذلك.
وما أراه.. ضرورة وجود جهد مؤسساتيّ علمائيّ، يضخّ في كلّ عام توجيهات في هذا السياق، لتضمن التحوّل المعتدل المتّزن، الذي يضمن تنقيَّة الموروث من الخرافة من جهة، والاحتفاظ بما هو مقبول محتمل غير مرفوض.
ومن هنا أرى أنّ توجيهات المرجعيَّة العليا التي صدرت سابقاً من سنوات كانت في سياق ضبط الإثارات وما قد يحصل بين المؤمنين من مهاترات، وهي توجيهات ثمينة وقيّمة، ومازالت مؤثّرة، فلو تبعها جهد لعلماء البلد في ذلك لكان الأثر أبلغ وآكد.
النطاق الثاني: الشأن التبليغي العامّ
السؤال الأول: أولوّيات الخطاب التبليغيّ
- تتبدّل أولوّيات الخطاب وتتنوّع بحسب الظواهر الملحّة وما تستدعيه من تدخّل عاجل. ففي فترة كانت أفكار الإلحاد -مثلاً- تشهد شيئاً من الانتشار، ما دعا إلى مزيد من التصدّي والتناول في المحطّات التبليغيَّة المختلفة.
- برأيكم، ما هي أهمّ الظواهر الفكريَّة والسلوكيَّة والأخلاقيَّة التي تحتاج إلى تركيز ويرتفع رصيدها من الأولويَّة في الخطاب التبليغي؟
الجواب:
المتابع لوضع المجتمع، والقريب من الشباب، والمتلمّس لمشاكل الناس، يجد أنّ المجتمع يعيش جملة كبيرة من الإشكالات، والشبهات، والمشاكل، المتعدّدة والمتنوّعة، سواء على الصعيد الفكريّ، والعقائديّ، والاجتماعيّ، والفقهيّ، والسلوكيّ، والأخلاقيّ، والاقتصاديّ، والمعيشيّ وغير ذلك. مشاكل متعدّدة كثيرة جدّاً، لا حصر لها.
ومن جهة أخرى هناك معاناة من سرعة التجدّد في المشكلات، فعندما يقوم العلماء والنخب الثقافيَّة بمعالجة شبهة فسرعان ما تظهر شبهة أخرى، تستولي على العقول لتُحدث تشويشاً وإرباكاً، عقائدياً كان أو فكرياً أو سلوكياً وغير ذلك.
بل وما يثير الحيرة ويُحدث اليقظة أيضاً، تسارع وتيرة الإثارة للإشكالات، ممّا يوقظك إلى عدم طبيعيَّة حجم الإشكالات التي تثار في المجتمع، لتدرك إدراكاً لا شكّ فيه من استهداف المجتمعات الإسلاميَّة بإثارة الشبهات لحرف المسيرة، وإحداث تشاغل عن قضايا الأمة الأهمّ.
وهنا الخطيب إذا أراد أن يحافظ على حيويَّة طرحه وتجدّده، فيجب عليه ما يلي:
أولاً: المتابعة والرصد
فيكون متابعاً ومطّلعاً على شؤون المجتمع في كلّ الجوانب والحيثيات.
ثانياً: القراءة والتّثقيف الدائم والمستمر
وذلك من خلال متابعة الإصدارات الجديدة من الكتب والمجلات وحضور المجالس العلمية، والمنتديات النقاشيَّة والحواريّة.
ثالثاً: الترتيب للأولويات
فيحسن الانتقاء والاختيار -بعد الرصد والمتابعة- لما هو أولى من الآخر من الموضوعات والمشكلات.
رابعاً: التنوّع
بمعنى أن ينوّع الخطيب في طرحه، فلا يغلب على طرحه نوعاً واحداً من المشكلات.
خامساً: الإلمام والإحاطة
بأن يتمتّع بإحاطة جيّدة متماسكة بالمشكلة، من جميع نواحيها؛ ليكون طرحه متّزناً، وعن قدرة وتمكّن.
سادساً: العصرية
وذلك بأن يتسلّح باللغة المتناسبة لطرح الموضوع، بحيث يتمكّن من مخاطبة الجمهور، فلا ينزل ويهبط باللغة فيوصف بالسطحيّة، ولا يرتقي باللغة ويصعد فينعت بالتعقيد.
وإذا أردنا أن نذكر بعضاً من مشكلات مجتمعنا -كما طلبت في سؤالك- فإنّنا نذكر التالي:
العقيدة المهدويَّة بنواحيها المتعدّدة، الإلحاد واللادينيّون، الربوبيّون الجدد، الشرور والبلايا وعدل الله سبحانه، البرزخ، العذاب والعقاب، المعاجز، إشكالات الحداثيّين، المرجعيَّة والقيادة السياسية، الأديان، العلاقات الاجتماعية، والمشكلات الأسريَّة (الطلاق، والهَجر، والإهمال، والتربية، والعنف، و..)، والمشكلات الشبابيَّة (العمل والوظيفة، الزواج وتكوين الأسرة، الهمّ المادي والمعيشي، ضعف الوازع الديني، ارتفاع الاهتمام الدنيوي، المراهقة والحبّ)، معجزيَّة القرآن، والمواضيع والإثارات على القرآن، وغير ذلك من مشكلات.
السؤال الثاني: التعليم الديني
- من خلال تجربتكم في إنشاء وإدارة مؤسّسات التعليم الديني، ما هي أهمّ التحدّيات في هذا الشأن؟
الجواب:
التعليم الديني في البحرين قديم جدّاً، وفي كلّ مرحلة كان يواجه الكثير من التّحديات والصعوبات، وهنا لا بدّ أن نستذكر الفترة الذهبيَّة التي عاشها التعليم الديني على مستوى الرعايَّة والعناية، والاهتمام والتطوير، وهي فترة المجلس الإسلاميّ العلمائيّ، فلقد كان وجوده -وتحت مظلّة كبار العلماء، وعلى رأسهم سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسمB- نعمة كبيرة، حيث شهد التعليم الديني تطوّراً كبيراً على مستوى تنظيمه الإداريّ والتعليميّ في مختلف مناطق البحرين.
وأمّا المرحلة الحالية، فالتعليم الديني ما زال مستمرّاً في جميع مناطق البحرين تقريباً، مع وجود الاختلاف -قوّة وضعفاً- لتلك البرامج الدينية.
وأعتقد من خلال تجربتي وقراءتي للواقع، أنّ البرنامج كلّما عاش في كنف عالم أو فريق مؤمن عاملٍ رساليّ، يمتلك طموحاً، ويعيش همّ الأمة والشباب والمجتمع، كلّما أزهر ذلك المشروع وازدهر وكبر وتمدّد وزاد بركة.
والأمثلة في ذلك كثيرة، من مشروع الدراز، وعالي، ومشاريع سترة، والسنابس، والبلاد، وغيرها.
ولذلك المشكلة والتحدّي الأكبر في توافر العنصر البشري الذي يمكن التعويل عليه، الممتلك للعقليَّة الخلّاقة، والإرادة الجبارة، والحيويَّة الوقّادة.
ثمَّ التحدّي الآخر يكمن في الإمكانات الماديّة، من مبنى وبيئة تعليميّة، وكوادر تعليمية، ومناهج.
والتحدّي الأخير (استمراريَّة العمل)، فلربما تبدأ في مشروع ولكن بعد سنة أو أخرى تتوقّف، لينتظر المجتمع مجموعة أخرى تنهض وتقوم، وفي فترة الانتظار هذه يضيع بعض الشباب، ولذا هناك مشكلة في تسليم المهمّة للجيل التالي من العلماء والعاملين، حيث نرى في بعض المناطق شباب الماضي من قادوا العمل وهم الآن شيوخٌ وما زالوا على رأس العمل.
السؤال الثالث: شبهات تستلب الشباب
- يتعرّض الشباب اليوم إلى ألوان من الأطروحات المتفاوتة العمق في مختلف المجالات، وربما بشكل غير مدروس في الفضاء المجازي، وهناك كثير من الناشطين في الشرق والغرب الذين يطرحون أفكاراً خطيرة ومنحرفة، ومخالفة للهدي العام لمراجعنا، وباسم أهل البيتi، ولا نُعدَم أنْ نرى تأثير هؤلاء على بعض شبابنا خصوصاً مع لهجتهم وأسلوبهم الحماسيّ والصداميّ -الذي يجده المراهق أحياناً منسجماً مع تكوينه النفسيّ-، والمغلّف بعاطفة وهميَّة وغير موجّهة لأهل البيتi.
- والإشكال يكمن في أنّ الشاب يتعرّض إلى إشكاليّات يفوق مستوى معالجتها ما يتعرّض له خطابنا التبليغيّ بحجة أنها أبحاث تخصّصيَّة مثلاً. ففي حين يعرض هؤلاء في خطابهم تفاصيل الكتب الحديثيّة، والرجاليّة، وغيره، ترسخ الشبهة لهؤلاء الشباب، ولا يجدون ما يوازيها من الطرح العلميّ أحياناً.
- هل تجدون هذا الكلام تاماً؟ وما هي تجربتكم في هذا الشأن؟ وما هي السبل لمجابهة كافيَّة لهؤلاء؟
الجواب:
فعلاً إنّ من أخطر المشكلات التي نواجهها في المجتمع هي من صنّاع الفتن، وبائعي الأوهام، ومريدي الشهرة، وعملاء الاستكبار المباشرين وغير المباشرين.
كنّا سابقاً نرى أناساً على الجانب الآخر، دون أن يرتدي لباس العلم والدين، يرمي الشبهات ويحاول أن يثير الفتنة، غير أنّه في الجهة المقابلة لك تراه وتشاهده، مفضوح معروف عندك.
أمّا الآن، فالمشكلة الكبيرة في الإلباس الذي يمارسه من أشرنا لهم وهم بيننا، يرتدون لباساً ليسوا أهلاً له، ويتحدّثون باسم الدين، ويحاولون أن يقنعوا الشباب والناس من خلال مغالطات وأكاذيب، بقدرة خطابيَّة عالية.
يعتمدون على بعض من الأساليب، نذكر منها:
1. المظهر والمسمّيات وإيحاءاتها الكاذبة.. عمامة كبيرة، لحيَّة طويلة، ألقاب زائفة.
2. التعريف بسيرة مزيفة، تعتمد سرد قصص وبطولات لم يعشها ولم يخضها.
3. صور مع بعض العلماء الثقات للإيحاء بأنه موضع ثقة معتمد.
4. التدرّب للتمكّن من الظهور بصورة القوي المحاجج.
5. دعوى دفاعه عن المذهب في حين يتقاعس الآخرون، ودعاوى أخرى للإيحاء بأنّه الأكثر وعياً وولاءً.
6. استعمال مفردات توحي بتفرّده في طرح الشبهة أو حلّها.
7. صناعة وهم ضاغط لمنع المتلقّي من الرجوع لغيره، بدعوى أنّ غيره لا يتمتّع بالعلم أو الولاء الكافي، أو أنّهم مخادعون كَذَبَة.
وحقيقةً.. كلّ هذه الأمور تشكّل ضغطاً نفسياً على الشباب أكثر من كونها ضغطاً علميّاً، إذ لو أنّ الشاب توقّف عندها توقّفاً علميّاً ورجع للمختص لوجد حلاً لها.
ولذلك ما أراه من الشباب المتعاطف والمتفاعل مع هؤلاء، ما هم إلا شباب يفتقدون للعلم، خاضعون للضغط الانفعاليّ العاطفيّ، ومسيطَرٌ عليهم بكمٍّ كبير من الأوهام.
وأرى أنّ التسامح والتغافل من قبل العلماء وطلبة العلم عن التصريح بهؤلاء -من أتباع التشيّع اللندنيّ والحداثويّين- سمح بتمدّد أتباعهم، وتكاثر مريديهم.
ومن هنا ما نراه من تصاعد بعض الأصوات العلمائيَّة في مواجهة هؤلاء -وإن تأخّر قليلاً- يسير في الاتجاه الصحيح في مواجهة هذا الفكر المنحرف، ويجب أن يحظى بالدعم من كلّ المستويات.
وهنا لا بدّ أن نعيَ أنّ هؤلاء لن يندثروا، فيجب أن تبقى المعركة معهم مفتوحة، فلا نرخي دفاعاتنا، ولا نرفع أصابعنا عن زناد الردّ عليهم.
النطاق الثالث: الشأن الحوزوي
السؤال الأول: الحوزة البحرانيّة
- لديكم تجربة طويلة وثريَّة فيما يتعلّق بإدارة الحوزات العلميَّة في البحرين والتدريس فيها. هل يمكن استعادة البحرين حاضرة علمية؟ ما هي الموانع وما الذي يلزم على مستوى طلبة العلوم كأفراد، وعلى مستوى الحوزات؟ وعلى مستوى البيئة الحاضنة من مجتمعنا المؤمن البحريني؟
الجواب:
الحوزات الرئيسة في البلاد تطوّرت رغم ضعف الإمكانات الماديَّة والبشريّة، وهذا أمر مشاهد ملحوظ، غير أنّنا إذا أردنا أن نُعيد لحوزة البحرين مكانتها العريقة فإنّ الدرب طويل وشاقّ، وذلك لاعتبارات عديدة منها ما يلي:
1. الاعتبارات السياسيَّة التي تحكم منطقه دول الخليج، ومنها البحرين.
2. غياب المرجعيَّة الدينيَّة المحليَّة الحاضنة والجامعة للعلماء وللناس.
3. غياب الحاضنة الروحيَّة والمعنويَّة، بخلاف -مثلاً- حوزة النجف، حيث تتمتّع بجوار لأمير المؤمنينg، وما يقدّمه الجوار من فيوضات روحيَّة ومعنويّة، وكذلك الأمر في الحوزات والحواضر العلميَّة العريقة.
4. الافتقاد للكمِّ البشري في البلد.
5. تأثير الجانب الاجتماعي وضغط المشاغل والارتباطات التبليغيّة.
ومن خلال كلّ ذلك ندرك ضعف المنافسة مع الحواضر العلميَّة العريقة، لما تتمتّع به من إمكانات عاليَّة راقية.
ولذلك الذي أراه أن يتمّ تطوير الحوزة البحرانيَّة على أساس رؤية تعتمد التكامل أساساً مع الحواضر العلميَّة خارج البلد، بحيث تكون الحوزة في البحرين حلقة في ضمن حلقات مترابطة مع حاضرتي العلم في النجف وقم.
فتعتني الحوزات في البلد بتوفير البيئة العلميَّة والقويَّة المناسبة للطالب المبتدئ، الذي لا محالة لا بدّ له أن يتوجّه لقم أو النجف، وبيئة حاضنة كذلك لمن ترك الدراسة فيهما وعاد للبلد على أمل الرجوع والاستمرار.
هذا في الجانب العلمي.
والجانب الآخر الملقى على عاتق الحوزة في البحرين هو الاهتمام بتهيئة العلماء من طلابها لممارسة التبليغ في كلّ جهاته ومساحاته، من خلال صقل مهارات طلبة العلم.
فإنّ التبليغ بالإضافة إلى حاجته لبعد علميّ فهو بحاجة لبعد مهاريّ مرتبط بمهارة الخطابة والإلقاء، ومهارة الإعلام ومواجهة الكاميرا، ومهارة المناقشة والمجادلة، ومهارات أخلاقيَّة وسلوكيَّة وغيرها، وإذا لم يتمتّع بها طالب العلم فإنّه قد يسقط تبليغيّاً وإن كان قامة علميَّة شامخة.
السؤال الثاني: التكامل بين طلبة العلم
- تتنوّع البيئات العلميَّة التي يمّر بها طلبة العلوم البحارنة، فهناك من يدرس في البحرين، وآخر في النجف، وآخر في قم، وغيرها يوجد أيضاً، ولكن بيئة العمل والتبليغ تعود لتتوحّد في ميدان واحد وهو مجتمعنا المؤمن. ومع الالتفات إلى أنّ العمل المبعثر والفردي، مآله إلى تشتّت الجهود أو التصادم ربما في أحيان قليلة، كيف يمكن أن نؤسّس لتواصلٍ فعّال بين مجاميع الطلبة المختلفة، لخلق أرضيَّة مستقبليَّة لعمل تبليغيّ مؤسّسيّ ومتكامل وفعّال؟
الجواب:
ما قد يظهر على أنّه شتات تعيشه بعض المناطق، أو تبعثر في الجهود، أو تصادم بين العاملين قد يكون نوعاً من أنواع التكامل في الأدوار وتبادلاً لها، وإضفاء نوع من التنوّع والثراء في العمل الإسلاميّ، وهذا طبعاً لا يشكّل مشكلة، بل على العكس هو صورة إيجابيّة، وحركة مباركة تقود المجتمع نحو مزيد من الرقيّ والتطوّر.
وقد يكون بالفعل يشكّل مشكلة، حيث عندما يعدّ حالة من الصراع والتصادم بين المؤمنين، يؤدّي إلى مضيعة الجهود، وفساد النفوس، وتقسّماً وتحزّباً، ومصداقاً لقوله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}(الأنفال:46).
ومن المؤسف عندما تجد أطراف التصادم هي النخبة المؤمنة، التي تتمتّع بكامل الأهليَّة الفكريَّة والعقدية، والتي يفترض أن تتمتّع بقدرة عاليَّة على حلّ الإشكالات والتعقيدات العمليّة.
فالعاملون من العلماء والمؤمنين يمتلكون الوعي القرآنيّ، والفقه العمليّ، والثقافة والفكر الإسلاميّ، وقراءة قرآنيَّة جيدة لمثل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(الحجرات:10)، وقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا}(آل عمران:103).
ولذلك مكمن المشكلة في التصادم ليس الضعف من هذه الجهة -أعني البنيَّة المعرفيَّة-، بل في غياب الوعي السلوكيّ والحركيّ، والإيمان العمليّ التطبيقيّ، من عدم حركة النظريَّة في واقعنا.
والذي أعتقده أنّ ما يعين في معالجة هذه الصراعات ما يلي:
أولاً: تعزيز العلاقات ما بين العلماء العاملين بعضهم البعض، وأن يكون ذلك من زمن مبكّر، من خلال تكثيف اللقاءات، وعقد الجلسات الأخويّة، لبناء أواصر المحبّة والاحترام، والذي يؤدّي لبناء رابط نفسيّ لا عقليّ فقط، وصداقة معزّزة مؤكّدة، تكون قاعدة يرجع لها عند الاختلاف وتكون حصناً مانعاً من انزلاق الاختلاف إلى خصومة أو لا قدّر الله إلى فجور فيها.
فمشكلات التصادم بين المؤمنين في كثير من أمثلته يرجع إلى أمور نفسيّة، وفشل في إدارة الضغط النفسيّ والأخلاقيّ، لينجرّ المؤمنون إلى حالة من الفلتان الأخلاقيّ والسلوكيّ والحركيّ.
ثانياً: الحذر من عدم الاحتكام إلى الأحكام الأوليَّة والتساهل في تطبيق العناوين الثانويّة، لترى المؤمن العامل يقتحم حرمة أخيه المؤمن بحجة العنوان الثانويّ، فيطبّق تزاحماً بين الأحكام والحال ليس من صوره، فلا يحتكم إلى الأحكام الأوليَّة من حرمة الغيبة والنميمة والقذف وغير ذلك، بحجة وجود عنوان ثانويّ مبيح، أو تزاحم مع مصلحة أعلى وأولى، أو يطبّق بنحو مغلوط الحبّ والبغض في الله، وغير ذلك، من مغالطات دمّرت العلاقة بين العلماء والعاملين.
ثالثاً: الرضا بالتحاكم لكبار العلماء عند الاختلاف وقبول النصيحة وفصلهم، وعدم العناد والمكابرة والتعنّت، فوجود مرجعيَّة للعلماء نعمة كبيرة، وبركة عظيمة، يجب المحافظة عليها من خلال الانقياد، والطاعة، والرضا بحكمهم وتشخيصهم، عندها سنجد أنّ الاختلافات تتلاشى، والتصادمات تتضاءل.
رابعاً: تقاسم الأدوار، فمن المهمّ جدّاً القبول بتقاسم الأدوار، وضرورة إفساح المجال لبعضنا بعضاً كي يعمل ويضخّ جهده وفكره في المجتمع.
وهذا التقاسم في الأدوار بلا شك يحتاج إلى الإيمان بالرأي الآخر وبالتنوّع العلميّ والثقافيّ، والقبول بالاختلاف، ونحو ذلك من مفاهيم مهمّة، نبتعد من خلالها عن الفكر الأوحد، والتفرّد والسلطويَّة والتكبّر ونحوها من مفسدات النفوس والقلوب، ومستفزّات التصادم والتباغض والتناحر.
السؤال الثالث: التبليغ والنشاط العلميّ
- يبدأ طالب العلم عمله التبليغي عادةً، وتتقلّص نشاطاته العلميَّة إلى أقصاها إلا فيما يتّصل بالإعداد لمحاضراته ومنبره، ويرى البعض أنّنا بحاجة إلى مجالس علميَّة حقيقيَّة بين طلبة العلوم، تفتح آفاق حرّة وخاصّة للطرح العلميّ، وتثري النقاش وحركة البحث بينهم. ما هو رأيكم؟ وهل لكم تجربة في ذلك في بلدنا؟
الجواب:
في الواقع هذا السؤال يضع اليد على مشكلة متضخّمة تحتاج إلى معالجة جادّة، من خلال دراسة تفصيليَّة لتداعيات انشغال العلماء بالتبليغ وتآكل الاهتمامات العلميّة.
ويظهر التآكلّ للاهتمام العلميّ لدى بعض علمائنا من خلال ما يلي:
1. عدم انتساب البعض للحوزات العلميَّة لا طالباً ولا أستاذاً.
2. ضعف المتابعة التحصيليَّة العلميّة، بالاكتفاء بتدريس المتون البسيطة التي قد لا تحتاج لجهد تحضيريّ.
3. انعدام النتاج الكتبي لبعض العلماء حتى على مستوى المقالة، فضلاً عن الكتابة للكتب والأبحاث.
4. قلّة المشاركات العلميَّة (محاضرات، أو كلمات، أو إرشاد، أو خطابة..)، والاكتفاء بنشاطات تبليغيَّة بسيطة كالصلاة، أو حضور اجتماعيّ (أعراس وفواتح ومجالس..).
5. كثرة تسجيل الملاحظات من قبل النّاس على بعض المشاركات لبعض الطلبة، بعضها فنيَّة وكثير منها علميّة.
وغير ذلك من مظاهر ضعف الاهتمام العلميّ، والذي يبرّر -من قبل بعض- بالاشتغال بالتبليغ.
والذي أعتقده أنّ الحلّ لهذه المعضلة، لا يكون إلا بتكاتفٍ من المؤسّسات الحوزويَّة والقامات العلميّة، لترتيب الأولوّيات عند الطلبة، وصناعة الجوّ العلميّ الضاغط على الطالب، والمحفّز لهم للاهتمام بالبعد العلميّ.
وبالطبع كانت وما زالت هناك محاولات ولكنها لم تنجح إلا بشكلّ جزئيّ كمثل ما يلي:
1. عقد جلسات علميَّة لبعض العلماء الأفاضل، وفتح مجالسهم.
2. الترويج لمحاور الموضوعات لبعض المجلات الإسلاميَّة والدعوة للكتابة فيها.
3. عقد ورش نقاشيَّة ولقاءات متكرّرة مع طلبة العلم في محاور متعدّدة.
وغير ذلك.
الخاتمة
في ختام الحوار، تتقدّم أسرة المجلّة بجزيل الشكر والامتنان لسماحة الشيخ رائد الستريB لقبوله الحوار، وتبتهل إلى اللهa بالدعاء له بدوام التوفيق في منبره، وتبليغه، وعلمه وجميع عمله، بحقّ محمّد وآله الطاهرين.
([1]) المجلسيّ، بحار الأنوار، ج44، ص289.
([2]) المجلسيّ، بحار الأنوار، ج43، ص222.
([3]) كشف الغمّة، الأربلي، ج2، ص239 .
([4]) الكافي، الكليني، ج2، ص13، ح4.

0 التعليق
ارسال التعليق